الدولة و المجتمع في ليبيا قبل ثورة 17 فبراير 2011 وبعدها: مقاربة سوسيولوجية
p. 15-34
Texte intégral
المقدمة
1حظيت العلاقة بين المجتمع والدولة باهتمام المفكرين عبر مختلف عصور التاريخ، وقد توجه الاهتمام في بعض الأحيان إلى البحث في أسبقية أحدهما عن الآخر، بمعنى أيهما حدث أولا المجتمع أم الدولة. مما لا شك فيه أن هناك أبنية وهياكل اجتماعية تسبق أخرى من حيث تاريخ ظهورها. المجتمع بمفهوم علم الاجتماع عبارة عن تجمع لجماعة من البشر، في مكان جغرافي معين، يكون مسرحا لعمليات التفاعل الاجتماعي بينهم، وليتعاونوا لإيجاد أنواع من التنظيمات، التي من خلالها يحققون حاجاتهم البيولوجية والاجتماعية، وفق قواعد عامة تتطور عبر الزمن. وتتطور القواعد العامة التي توجه أفراد المجتمع، في وقت مبكر من تاريخ تطور المجتمع، وتكون الثقافة، أول وعاء تتراكم فيه القواعد المتعلقة بالقيم والمعايير التي ينتجها أبناء المجتمع. إذ لكل مجتمع بشري ثقافة بغض النظر عن صغر حجم أعضائه، أو مهما انخفضت درجة تطوره، بمقاييس العصر الذي يوجد فيه، ومقارنة بمجتمعات أخرى.
2نرى أن المجتمع سابق، وتأتي الدولة ضمن التنظيمات التي يتوصل اليها الفاعلون في المجتمع، لكي تتولى عنه القيام بمهام رئيسة، كالمحافظة على الأمن وتنظيم توزيع الخدمات والموارد المختلفة وفق برنامج يفترض فيه عدالة التوزيع. فالدولة هي المكون الذي توكل اليه مهمة إقرار النظام، على اعتبار أنها المخولة باحتكار امتلاك السلاح الشرعي واستعماله قانونيا، وتتحكم في نشاط الأجهزة العسكرية والأمنية. وعليه يتقاسم المجتمع مع الدولة الخدمات التي يجب تقديمها او توفيرها للأفراد، وتأخذ العلاقة بينهما في هذه الحالة نمط التكامل والتعاون. لكن قد تستقوى الدولة على المجتمع، وتصير دولة تسلطية، وتسيطر على جميع الأنشطة بما في ذلك التي يفترض أن تكون خارج سلطتها، متسببة في اتساع الهوة بين الدولة والمجتمع. وقد يحدث العكس، بحيث يقوى المجتمع، ويحاصر الدولة، ويسلب منها بعض اختصاصاتها، فتصبح دولة ضعيفة، لا تستطيع تطبيق القانون أومحاسبة الخارجين عليه، فتتولى هذه المهام جماعات غير رسمية؛ كالمليشيات المسلحة مثلا أو القبائل القوية، متسببة في انتشار الفوضى، فتتوقف برامج التنمية، وترتفع معدلات الفقر، وتتدهور أحوال أفراد المجتمع. وسنحاول في هذه الورقة إلقاء بعض الضوء، على العلاقة بين الدولة والمجتمع، في خلال المراحل التي مر بها المجتمع الليبي خلال تاريخه الحديث.
الدولة المدنية: العلاقة التكاملية بين المجتمع والدولة
3المجتمع الليبي بتركيبته الحالية، من بين المجتمعات التي تنخفض فيها عناصر الاختلاف بين مكوناته الاجتماعية. الغالبية تنسب أصولها للقبائل العربية، الجماعات التي تحمل بعض الصفات الخاصة محدودة (الأمازيغ والطوارق والتبو)، ونسبتها بين السكان صغيرة. معظم السكان من المسلمين والغالبية على مذهب الامام مالك. كذلك يمكن وصف المجتمع الليبي بأنه مجتمع قبلي؛ بمعنى أن القبيلة فيه ولزمن قريب كانت أهم بنياته الاجتماعية. وعلى الرغم من تعرضها خلال السنوات الأخيرة، إلى منافسة مع هياكل اجتماعية جديدة، لا تزال تحتفظ بموقع متميز داخل البناء الاجتماعي للمجتمع الليبي. والقبيلة كما ينظر اليها محليا، عبارة عن عدد من الأسر النووية والأسر الممتدة، ترتبط ببعضها - على الأقل في أذهان أعضائها - بأصل واحد (أب او جد)؛ وأسر أخرى تنتسب إلى القبيلة عن طريق علاقات المصاهرة، أو حتى بهدف الاحتماء. وتؤلف مجموعة من الأسر العشيرة، ومن مجموعة العشائر المرتبطة ببعضها تتكون البطن، ومن مجموعة البطون تتكون القبيلة2.
4تختلف القبائل من حيث الحجم والمكانة بين بقية القبائل، وطبيعة الأرض التي تعيش عليها وتستغلها؛ إذ تملك كل قبيلة كبيرة مساحة من الأرض باسمها، وملكية معترف بها من قبل القبائل المتواجدة في موقع جغرافي بعينه. وإذا سلطنا الضوء على أهم مسارات التفاعل الاجتماعي في داخل هذه التركيبة، لوجدنا أن درجة قوتها أو ضعفها تتصل اتصالا مباشرا مع تراتبية الوحدات التي ذكرناها (الأسرة النووية والأسرة الممتدة والعشيرة والقبيلة). وإذا حاولنا قياس حالة من حالات التأييد أو الالتزام أو الولاء مثلا، لوجدنا أن قوة كل واحدة منها لدى الفرد ترتبط بمدى قربه أو بعده عن هذه الوحدات. فأقوى درجات ولاء الفرد لأسرته الصغيرة ثم الممتدة ثم العشيرة ومن بعدها القبيلة، الشيء نفسه يحدث في حالات الصراع أيضا. ويعج التاريخ الليبي، قبل ظهور الدولة الوطنية، بأخبار النزاعات والحروب القبلية، وكانت أغلبها بسبب الاعتداء على الأرض، أو على موارد المياه. لذلك احتاجت القبائل إلى عقد اتفاقات مع قبائل أخرى، لكي تتعاون وتتكاثف وقت السلم، ولتساند بعضها أثناء الحروب القبلية. وفي غالبية الأحيان، يقوم بعض حكماء القبائل بعقد صلح بين القبائل المتحاربة. ولكن حدثت في أحيان أخرى أن اضطرت القبيلة التي هزمت في حرب قبلية إلى الهجرة، والالتجاء الى إحدى البلدان المجاورة.
5عرفت ليبيا مظاهرَ وجود الدولة؛ إما في شكل دولة مستعمرة، أو كولاية من ولايات الإمبراطورية العثمانية، إلا أن الدولة التي نعنيها هنا، تلك التي أُعلن عنها في مطلع خمسينيات القرن الماضي. ودون الدخول في تفاصيلَ المراحل التي قادت في آخر الأمر إلى حصول ليبيا على الاستقلال، فإن شكل الدولة التي تكونت حينها تحكّم فيه عاملان رئيسيان: التوافقات التي تمت بين الدول التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية، ثم طبيعة النخب الليبية التي تصدرت المشهد السياسي والاجتماعي، وعليه أعلنت كدولة اتحادية، تجمع ثلاث ولايات، برئاسة ملك فرضته هو الآخر، ظروف خاصة3.
6عندما استقلت البلاد كانت بها أقلية يهودية كمكون اساسي للسكان، وجاليات أوربية أهمها الإيطالية والمالطية واليونانية. حرصت الدولة على احترام التنوع الاثني والديني، وضمنت لغير المسلمين مزاولة شعائرهم الدينية بحرية كاملة، وكذلك أنشطتهم الاقتصادية. توافرت للدولة الجديدة مظاهر الدولة الحديثة، إذ أعد دستورها قبل الإعلان الرسمي عنها. دستور أعد بمهنية عالية، يمهد الطريق لتكوين جهاز تشريعي، أخذ شكل غرفتين: مجلس نواب ومجلس شيوخ، وجهاز إداري وآخر قضائي، وجيش وشرطة، الجهازان اللذان ستوكل اليهما مهمة التحكم في السلاح، وضبط الأمن الخ. إلا أن الظروف التي رافقت مراسم إشهار الدولة، وسلوك الحكومة خلال الأشهر الأولى، تضمنت عوامل لبروز انقسامات جديدة في داخل المجتمع، تضاف إلى تلك، الخلافات التي كانت بين الزعامات التي تصدرت المشهد، في خلال الفترة التي شهدت نشاطا مكثفا لعدد من الزعماء التقليديين للمطالبة بالاستقلال. ساهمت هذه الظروف في إضعاف الدولة، فاختيار النظام السياسي والمؤسساتي مثلا، لم يتم بناء على استفتاء شعبي، بل أيد موقف أحد الطرفين المتنازعين، وهو الطرف المؤيد للنظام الاتحادي "الفدرالي"، الذي كان يتزعمه حينها أمير برقه محمد ادريس السنوسي، ورئيس الحزب الوحيد في الإقليم، وعرف باسم حزب المؤتمر البرقاوي، يؤيد هذا الخيار في إقليم طرابلس حزب الاستقلال المتهم بولائه لإيطاليا4. عارضت هذا الاتجاه، جبهة ضمت أحزابا أخرى أهمها حزب المؤتمر في إقليم طرابلس، وجمعية عمر المختار في إقليم برقة، وتصور أعضاؤها أنهم يمثلون الغالبية الشعبية، وأن الانتخابات التي كانت مبرمجة قريبا ستؤكد صحة تصورهم. جرت أول انتخابات برلمانية في مطلع 1952، وعند إعلان النتائج تبين أن الجبهة فازت بمقاعد المدن، حيث توافرت شروط النزاهة والشفافية، وخسرت مقاعد الريف، ما أدى إلى خروج آلاف المتظاهرين في عدد من مدن الغرب الليبي متهمين الحكومة بالتزوير. رد رجال الشرطة باستخدام الرصاص الحي، سقط قتلي وجرحى، وألقت السلطات الحكومية القبض على بعض زعماء المعارضة، وأطردت البعض الآخر إلى خارج البلاد. لم تكتف الحكومة بتلك الإجراءات الصارمة، بل سارعت إلى اتخاذ قرار، ستكون له تداعيات سلبية على التجربة الديمقراطية، تمثل في إلغاء الأحزاب5. لم يؤثر هذا الاجراء في عملية تنظيم الانتخابات، إذ استمرت الدولة في تنظيم انتخابات برلمانية كل أربع سنوات، حيث تنافس فيها أفراد مستقلون، وهكذا حجمت التجربة الديمقراطية، نتيجة إخضاع أهم الأنشطة السياسية العامة لإملاءات كيانات ما قبل الوطنية؛ حيث خضعت للعلاقات الزبونية مثل علاقات القرابة والولاءات القبلية، وشراء الأصوات، وغابت البرامج السياسية التي يلتزم الحزب بتنفيذها، ويدلي الناخبون بأصواتهم على ضوئها. لم ترض عن هذا الوضع شريحة أخذت تكبر بسرعة، وهي شريحة المتعلمين. كما تزايد السخط الشعبي على الدولة بسبب انحيازها بقوة إلى المعسكر الغربي، وخصوصا بريطانيا وأمريكا. وساهم الانقلاب العسكري الذي حدث في مصر في منتصف عام 1952 بنصيب كبير في هذا الشأن، خصوصا بعد بروز عبد الناصر زعيما نجح في التعبير عن آمال وتطلعات الكثيرين على امتداد الوطن العربي، وخطيبا مفوها قادرا على استثارة المواطنين ضد حكامهم6.
7لكن على رغم ما شاب التجربة الديمقراطية من شوائب، عرف مجلس النواب في خلال جميع دوراته، مجموعة صغيرة تصرفت كجبهة للمعارضة. نشطت هذه المجموعة في مساءلة الوزراء، وانتقاد بعض تصرفاتهم. ويوضح الذين أتيحت لهم فرصة الاطلاع على مضابط جلسات مجلس النواب الليبي خلال دوراته المختلفة، أن بتلك المضابط : "الكثير من المناقشات الحامية والحوار الوطني الصريح، والجدال العنيف أحيانا كثيرة، والكر والفر بين المعارضة البرلمانية والحكومة"7 وكانت تلك النقاشات تلقى طريقها إلى النشر، حيث كانت الكثير من الصحف مملوكة لأفراد، وعرف عن بعضها أنها تلعب دور صحف المعارضة.
8ثم إن الدولة قدمت الدعم إلى جمعيات المجتمع الأهلي ذات الصبغة الدينية مثل: الأوقاف وزوايا الصوفية المنتشرة في مختلف المدن، والجمعيات الخيرية. كما وافقت على استمرار عمل منظمات المجتمع المدني التي كانت موجودة أثناء حقبة الاستعمار، وإنشاء المزيد منها. لذلك نشطت النقابات العمالية والمهنية، والجمعيات التي تخصصت في رعاية فئات معينة مثل المرأة والشباب وذوي الاحتياجات الخاصة الخ...وكان لبعضها صحفها الخاصة التي فتحتها أمام أصوات المعارضة بغض النظر عن انتماءاتها.
9بعد عشرة أعوام من تاريخ إعلان الاستقلال، وافق الملك على الغاء النظام الاتحادي، وقبل بفكرة النظام الوحدوي، لم يصدر هذا القرار استجابة لجهود جبهة المعارضة السياسية، ولكن بسبب ظروف تتعلق باستخراج النفط وتصديره. أصبح الاسم الرسمي للدولة المملكة الليبية، بدلا من المملكة الليبية المتحدة.
10لم تتوفر في البلاد موارد طبيعية مهمة قبل اكتشاف النفط، لذلك انحصر النشاط الاقتصادي في الزراعة وتربية الحيوانات بالنسبة لغالبية السكان، والعمل في مجال التجارة وبعض الحرف التقليدية في المراكز الحضرية. تغير هذا الوضع بمجرد أن بدأ نشاط البحث عن النفط ثم اكتشافه، إذ توافرت مجالات عمل جديدة ومتنوعة. ضمنت السياسة الاقتصادية للدولة جوا ملائما لنمو القطاع الخاص، فظهرت طبقة من رجال الأعمال النشطين، تمكنوا من بناء مشاريع كبيرة، ساهمت في إيجاد مواقع شغل لعدد من الليبيين. وقادت الى بدابة تشكل طبقة اجتماعية متوسطة، وأيضا إلى تنامي قوة نقابات العمال التي نجحت في تنظيم شؤونها، وأن تنشط في الفضاء العام كمكونات تعمل الى جانب الحكومة، وليست تحت سيطرتها المباشرة كما يحدث في الأنظمة الشمولية مثلا.
الجيش يستولي على السلطة : انحسار علاقات التعاون بين المجتمع والدولة وبداية اتساع الهوة بينهما
11لم يدم عمر الدولة المدنية سوى ثمانية عشر عاما، قبل أن تقوم مجموعة من صغار ضباط الجيش بانقلاب عسكري. حدث الانقلاب العسكري الليبي في زمن مني فيه العرب بداء عضال، يمكن أن يطلق عليه داء الانقلابات العسكرية، عندما تنافست الجيوش العربية للاستيلاء على الحكم. كانت البداية في العراق في ثلاثينيات القرن الماضي، لحق الجيش السوري في الأربعينيات، ثم الجيش المصري في خمسينيات القرن. يبدوا أن الشارع العربي اعتبر الانقلابات العسكرية الأسلوب المناسب لتداول السلطة، لذلك تعود على الترحيب بهذا الحدث، ولم يكن الشارع الليبي استثناءً، فحتى المنطقة التي كان يفترض أن الملك تمتع فيها بأعلى درجة تأييد، سمع في التظاهرات التي تزاحمت في شوارع مدنها، شعارات منددة بالملك وببرنامجه السياسي8.
12وكما هو حال جميع الانقلابات العسكرية، تتولى السلطة الفعلية لجنة عسكرية برئاسة أحد أعضائها ليصبح بعد فترة الحاكم الفرد. في حالة الانقلاب العسكري الليبي، الذي أطلق عليه منفذوه اسم ثورة الفاتح من سبتمبر، برز الحاكم الفرد منذ البداية، وحتى قبل ان يعلن عن أسماء بقية أعضاء الجماعة التي تسمى عادة بمجلس قيادة الثورة، وهو الملازم أول معمر محمد عبد السلام أبو منيار، واشتهر فيما بعد باسم القذافي أو القائد أو العقيد، الرتبة العسكرية التي ترقى اليها فور نجاح الانقلاب، وحافظ عليها طيلة حياته، بينما تجاوزها زملاؤه، وأبناؤه.
13كانت لدى القذافي، منذ البداية، فكرة تفكيك الدولة والمجتمع، وقد عبر عنها منذ الأيام الأولى للانقلاب العسكري في أكثر من مناسبة. عطل الدستور ليس بهدف استبداله بدستور جديد يتناسب مع ظروف الانقلاب، بل بأن: "وضع في سلة المهملات" وفي خطاب ألقاه يوم 28/11/1969 في مؤتمر للمعلمين في مدينة طرابلس قال: "إحنا قضينا على الحكومة، والموجودة الآن ليست حكومة بالمعنى التقليدي، اللي موجود الآن هو سلطة الشعب"9. وسلطة الشعب هذه التي تكلم عنها العقيد، في خلال الأيام الأولى من عمر الانقلاب، أعلنت فيما بعد وبتاريخ 02/03/1977.
14تمثلت الخطوة الثانية في برنامج تفكيك الدولة والمجتمع في: صدور قانون الصحافة وبموجبه ألغيت جميع الصحف والمجلات التي كانت تصدر، استعيض عنها بأخرى وصفت بالصحف الثورية، وبذلك ألغى جميع ما كان متوفرا عندئذ من أشكال التنوع في الرأي، وأصبح الاعلام بأنواعه محصورا في خطاب اللون الواحد وهو خطاب خشبي، يكتفي بترديد الخطاب الرسمي. أما قانون العمل الذي صدر في خلال السنة الأولى، تضمن نصوصا تحدد قواعد جديدة لتكوين النقابات المهنية وتحدد مجالات أنشطتها، حيث يكون أعضاء كل مهنة نقابة، تختص بمعالجة قضايا ومشكلات أعضائها فحسب، ولا يجوز لها المشاركة في أي نشاط آخر، ولا تكون لها علاقات بمثيلاتها في الخارج. ونتيجة لهذا الأسلوب أصبح المسؤولون في كل نقابة موظفين في الدولة، وبهذه الكيفية أصبح النشاط النقابي تحت إدارة السلطة الرسمية.
15في الطريق لاحتواء مختلف الأنشطة الخاصة بالمجتمع، تدخلت السلطة الانقلابية في الفضاء الديني، ففرضت سيطرتها على الأوقاف، وحجمت أنشطة الزوايا والجماعات الصوفية بحيث فقدت حريتها في إقامة الأنشطة التي تعودت على مزاولتها في بعض المناسبات الدينية. لم تستثن حتى تلك الهيئات، التي يفترض أنها تراقب تصرفات السلطة الرسمية فيما يتعلق بحقوق الانسان. وهكذا أصبحت السلطة الرسمية تنظم تعين الموظفين وتراقبهم وتقيلهم، ومع ذلك تم الاحتفاظ ببعض المظاهر الخارجية، وعليه وجدت جمعيات ومؤسسات تحمل أسماؤها عبارات من نوع: أهلية، أو غير رسمية، أو غير حكومية.
16ومع أن الأحزاب لم تكن موجودةً، كان معروفا أن بعض الشباب المتعلم، كانت له إما ارتباطات بالأحزاب الموجودة في المنطقة، أو تعاطف مع أيديولوجياتها، لذلك سن قانون يجرم الحزبية، ويحكم بالإعدام على من يجاهر بالانتماء إلى حزب، أو يدعو إلى تكوين حزب.
17كان مستوى طموح القذافي عاليا، فسارع الى توظيف جزء من الثروة المتوفرة من بيع النفط لتذليل ما تراءى له عقبات، وأعلن عن قرارات أوضحت رغبته في تولى زعامة فضاء أكبر من الفضاء الليبي المحدود بشريا، جدد دعوة عبد الناصر الى الوحدة العربية، دعا الى طرابلس رؤساء عرب، ومنها أعلن عن قيام وحدات عربية جمعت ليبيا ومصر والسودان، وفي مناسبة أخرى حلت سوريا محل السودان، ثم جاء الدور على تونس ثم المغرب، لكن جميعها لم تتجاوز مستوى البيانات. وبعد فشل الدفعة الأولى من المحاولات، عاد القذافي إلى الداخل ليجعل من ليبيا مركز انطلاق أيديولوجية عالمية حسب تصوره، فتابع تنفيذ برنامجه لتفكيك الدولة والمجتمع، عبر خطوات فصلها في خطاب ألقاه في مدينة زواره.
18في يوم 15 أبريل من عام 1973 ألقى القذافي خطابا، ستكون له فيما بعد قيمة تاريخية كبيرة، لطبيعة التحول الذي تسبب فيه في مسيرة ما عرف بثورة الفاتح من سبتمبر، عرف بخطاب زوارة أو النقاط الخمس. لم يتحدث بشأنه مع أعضاء مجلس قيادة الثورة، كان قد جرى خلاف بينه وبين عدد منهم، وأعلن عن رغبته في تقديم الاستقالة من عضوية المجلس، وعندما طلب منه بعضهم أن يقدمها مكتوبة، أجاب بأنه يرغب في إعلانها بين الجماهير، ليعلم بها جميع الليبيين، لذلك اعتقدوا أنه ذاهب لملاقاة الجماهير، ليعلن انسحابه من مجلس قيادة الثورة10. وكانت ا لمفاجأة، في إعلانه عن إلغاء كافة القوانين، وبداية انطلاق الثورة الثقافية التي سيقودها بنفسه؛ إذ قال : "تتعطل كافة القوانين المعمول بها الآن، ويستمر العمل الثوري بأن توضع العقوبات والإجراءات حالا. بمعنى أن كافة الإجراءات التي تتخذ لا يمكن الرجوع فيها الى نصوص قانونية"11. وهكذا أصبحت البلاد بلا دستور وبلا قوانين، يصدر القذافي الأوامر والمقولات، تنفذها فورا أجهزة إدارية وأجهزة أمنية، وتعامل كأنها قوانين. وخلال ذلك اليوم ألقي القبض على عدد كبير من الذين صنفوا "رجعيين" مثل: الذين لديهم انتماءات أو ميول حزبية، أو الذين جاهروا بعدم رضاهم عن الانقلاب العسكري. ومنذ ذلك اليوم أصبح إلقاء القبض على أي مواطن، أمرا لا يحتاج إلى تلك الإجراءات القانونية التي كانت سائدةً في البلاد أثناء الحكم الملكي. كما أصبح البقاء في السجن لعشرات السنين دون محاكمة أمرا عاديا.
19ذكرنا في مكان سابق أن المجتمع الليبي مجتمع قبلي، لذلك حرصت السلطات السياسية التي تتابعت على حكم البلاد منذ القدم، على مراعاة هذا الوضع الاجتماعي، وعمدت كل سلطة، على التعاون مع قبائل تراها مهمة لضمان فرض سيطرتها، وفي خلال مختلف الحقب التاريخية ظهرت قبائل تعادي السلطة المركزية، وترفض تنظيماتها وأوامرها، وحتى تهاجمها في عقر دارها. لهذا لم يكن غريبا عندما ظهرت ليبيا أول مرة كدولة مستقلة، أن يراعي الملك الذي لا يرتبط بقبيلة محلية، خريطة التوزيع القبلي، عند توزيع المناصب القيادية للمحافظة على التوازنات بين القبائل، كما تمتع في عهده شيوخ القبائل الرئيسية بمكانة رفيعة. تغير هذا الوضع بعد الانقلاب العسكري في العام 1969. جاء الانقلاب بهدف إحداث تغييرات أساسية ليس في السياسة فحسب، بل في مختلف المجالات، بما في ذلك نسق القيم وطبيعة العلاقات الاجتماعية. أكد الانقلاب العسكري على الشعارات فوق الوطنية: فكانت العروبة والاشتراكية والافريقانية، وعليه همشت القبيلة، وظهر هذا بوضوح، في تشكيلة أول حكومة بعد الانقلاب العسكري. على عكس الحكومات التي توالت على الحكم إبان العهد الملكي، تألف مجلس الوزراء بحيث كانت غالبيته من شباب متعلم، ليست له ارتباطات بالقبيلة، بل لبعضهم انتماءات أيديولوجية، وكان لهذا السبب مسجونا، مثل الدكتور محمود سليمان المغربي الذي خرج من السجن قبل حدوث الانقلاب بأسبوعين، وتولى رئاسة أول حكومة في العهد الجديد12.
20كذلك اتخذت إجراءات خلال الشهور الأولى للانقلاب العسكري، كان واضحا أن الهدف البعيد منها إضعاف مركز القبيلة وتفكيكها. جاءت البداية بإعادة التوزيع الإداري المبني على التوزيعات الجغرافية والقبلية، وحوفظ على عدد الوحدات الإدارية (المحافظات)، وكانت ليبيا مقسمة إلى عشر محافظات فحوفظ على عددها، لكن التغيير مس رسم حدودها الجغرافية، بحيث لا تحافظ القبيلة الواحدة على وحدتها داخل محافظة بعينها، وإنما يتوزع أعضاؤها بين عدد من الوحدات الإدارية، وضمت الوحدة الإدارية الواحدة أجزاءً من عدد من القبائل المختلفة. كذلك، كان جميع أعضاء مجلس قيادة الثورة، باستثناء العضو من مدينة طرابلس، ينتمون إلى قبائل، لكن لوحظ أن أي واحد منهم لم يلجأ خلال السنوات الأولى، إلى استحضار القبيلة عند التعريف بنفسه، ولا في العمل، مع أن إضافة اسم القبيلة إلى آخر الاسم، ليحل محل اسم العائلة أمر شائع، كأن يقال فلان العبيدي نسبة إلى قبيلة العبيدات، أو فلان المسماري نسبة إلى قبيلة المسامير وهكذا13.
21لكن، تغير هذا الوضع بعد تعرض القذافي لمحاولة انقلاب، شارك فيها بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة، إذ سارع للاحتماء بالقبيلة، فأحاط نفسه بالأقرباء، وتحالف باسم قبيلته مع قبائل أخرى. شجع نمط السلوك هذا آخرين فقلدوه، وبعثت من جديد عادة قديمة تتحد فيها قبائل مع بعضها، ويعتبر التعدي على أي واحدة منها، تعدي على الجميع، وقاد هذا الى أن يتقوى الولاء القبلي من جديد14. وعندما انضمت ليبيا إلى ثورات الربيع العربي، كانت القبيلة حاضرة في التشكيلات المسلحة، التي وإن توحدت في حربها ضد كتائب القذافي، إلا انها انغمست في صراعات بعد انتصار ثورة 17 فبراير، من أجل الغنائم المتمثلة في السلطة والثروة، وتسببت في عرقلة جميع محاولات إعادة بناء الدولة، بما في ذلك المحاولات التي تبناها المجتمع الدولي والأمم المتحدة.
تفكيك الطبقة الوسطى
22لم يعرف المجتمع الليبي في السابق، وقبل ظهور الدولة الوطنية، نظام الطبقات الاجتماعية، فالسواد الأعظم من السكان كانوا من الفقراء أو من ذوي الدخل المحدود. وعندما حصلت ليبيا على الاستقلال صنفت ضمن أفقر بلدان العالم. ولم يتحسن وضع السكان اقتصاديا إلا بعد بداية النشاط المتعلق بالبحث عن النفط، ثم اكتشافه بكميات كبيرة. لذلك بدأت تتشكل منذ ستينيات القرن الماضي طبقة اجتماعية يمكن وصفها بالطبقة الوسطى، عمادها موظفو الدولة ذوي المناصب العليا، ومن التجار، ومن المضاربين في شراء الأراضي وبيعها، وهو المجال الذي ارتبط بالنشاط المتعلق بالنفط، لما تسبب فيه من ارتفاع للطلب على الوحدات السكنية والمكتبية، واجبرت المدن التي كانت صغيرة أو متوسطة على التوسع. برزت فئة من أصحاب رؤوس الأموال استثمرت في العقارات، وفي سيارات النقل الضخمة التي تتطلبها صناعة النفط، لنقل المعدات الكبيرة من الموانئ إلى عمق الصحراء، حيث توجد آبار النفط، وشركات البناء وفي التجارة ...الخ. لذلك، بعد فترة وجيزة من يوم إلقائه لخطابه الخاص بإلغاء القوانين، التفت القذافي الى الطبقة الوسطى لتجريدها من إمكاناتها الاقتصادية، عبر سلسلة من الجمل التي عرفت بالمقولات. حلت هذه المقولات محل القوانين مثل: "البيت لساكنه والسيارة لمن يقودها". لم يتبق للشخص سوى منزل واحد مقرا لسكناه، وسيارة ضخمة واحدة إذا استطاع قيادتها وإلا تسحب منه. وأصبح مستأجر المنزل مالكه، كما آلت للسائق ملكية السيارة. ويفترض أن يستمر المستأجر في دفع الايجار الى الدولة، لكن توقفت الغالبية عن الدفع، على اعتبار أنهم يقيمون في عقارات يملكونها بحكم المقولة، التي أصبحت قانونا. أما الوحدات السكنية المؤجرة لغير الليبيين، فآلت ملكيتها للدولة، ثم تسربت فيما بعد إلى الليبيين، بعد أن بنت مؤسسات حكومية قرى سكنية يقطنها الأجانب. وفي رأي أستاذ العلوم السياسية يوسف الصواني: لم يكن القذافي مرتاحا لتنامي ثروة رجال الأعمال الليبيين؛ ففي إمكان وجود طبقة اجتماعية وسطى قوية، أن تدعم تنظيمات قد تهدد نجاح تجربته الجماهيرية15.
23وفي عام 1978 ظهر قانون التأميم الذي شمل جميع مجالات النشاط الاقتصادي. وهكذا تم تجريد الملاك من ممتلكاتهم ومدخراتهم، وفي خلال شهور قليلة، تساوى الليبيون في المستوى الاقتصادي، وليس في الثروة التي تضمنتها مقولة "السلطة والثروة والسلاح في يد الشعب". لكن الأمر الأهم هو تداعيات هاته الإجراءات على نسق القيم المتعلقة بالملكية الخاصة، التي نظمت سلوك الليبيين لعصور طويلة، وتحرم الاعتداء عليها وتحمل الجيران مسؤولية المحافظة عليها في حالة غياب المالك. سوف يكون للاستهتار بمثل هذه القيم تبعات كثيرة، وتداعيات على قيم أخرى، حيث برزت قيم جديدة تعمل في اتجاه خلق عداوات بين السكان، وتصب في صالح حالة التشظي الاجتماعي. من ضحايا هذه الحالة الفرد الذي نجح في جمع ثروة لا بالطرق المنحرفة، وإنما بالعمل الجدي، وحسن التدبير، والادخار، والاستثمار. وبمقولة القذافي أصبحت جميع هاته القيم غير ذات شأن، بل لم تعد قيما تحرص الثقافة على غرسها في أذهان الصغار عبر عملية التنشئة الاجتماعية. وعليه ستصبح استباحة المال الخاص سلوكا مقبولا لدى شريحة من أفراد المجتمع، وإن بدا حجمها صغيرا في الأيام الأولى، فستكبر مع الزمن، وهذا هو الذي حدث، إذ فتح الباب أمام الاستيلاء على المال العام، الذي سيصبح فيما بعد سلوكا واسع الانتشار بين موظفي الدولة، الذين يتولون مناصب عليا، أو الرشوة للذين في مواقع إدارية.
من نتائج إلغاء القطاع الاقتصادي الخاص
24أدى إلغاء القطاع الخاص، أن أصبح القطاع العام هو مجال العمل الوحيد، وبذلك ترسخت قواعد الدولة الريعية، التي انعكست تداعياتها في تغيير سلم القيم التي ترتبط بالعمل والدخل. حيث أصبح الحصول على مرتب لا يعني القيام بمجهود، ومنتوج يتم قياسه وتقويمه. وبسبب انتشار علاقات الواسطة والمحسوبية، برزت مظاهر غريبة عند مقارنتها بمثيلاتها في دول العالم. فمثلا في مجال التعليم، توضح بيانات الجدول رقم (1) عدد المدرسين لكل 100000 طالب في التعليمين الابتدائي والثانوي في عدد من البلدان العربية، إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية والسويد. ويبدو الرقم الخاص بليبيا بالنسبة للتعليم الابتدائي مختلفا بدرجة كبيرة عن بقية الأرقام الخاصة بالبلدان الأخرى.. ومع أن الرقم الخاص بالتعليم الثانوي هو الآخر كبير، إلا أن الفروقات بينه وبين الأرقام التي تخص بقية البلدان الواردة في الجدول، ليست بنفس المسافة في حالة مرحلة التعليم الابتدائي، لا تعكس الأرقام الخاصة بليبيا درجة جودة التعليم، بل بالعكس، تظهر حالة من حالات الفساد بسبب العلاقات الزبونية، التي يتبناها المسئولون في برنامج التعيين في الوظائف.
جدول رقم (1)
التعليم الابتدائي | التعليم الثانوي | ||
البلد | عدد المدرسين | البلد | عدد المدرسين |
ليبيا | 3643 | ليبيا | 1051 |
الجزائر | 553 | الجزائر | 265 |
مصر | 505 | مصر | 719 |
المغرب | 481 | المغرب | 307 |
السعودية | 822 | السعودية | 697 |
تونس | 630 | تونس | 606 |
الامارات | 650 | الامارات | 618 |
السويد | 773 | السويد | 792 |
الولايات المتحدة | 569 | الولايات المتحدة | 529 |
المصدر: دراسة اعداد استراتيجية اقتصادية واجتماعية طويلة المدى: نتائج المرحلة الأولى ( طرابلس: مجلس التخطيط العام، 2006)، ص.107.
25لا يعني أن جميع الناشطين اقتصاديا يعملون في القطاع العام، أنهم متساوون في الدخل، فوظائف الكادر الحكومي تتدرج من الأدنى إلى الأعلى وكذلك كمية الراتب. ثم أن الموظفين الذين كانوا يحتلون الدرجات العليا عندما طبق هذا النظام، كانوا يحصلون على ميزات أدت إلى ارتفاع دخولهم الحقيقية. فسلطة هؤلاء كبيرة تمكنهم من الحصول على خدمات ومقتنيات وعقارات بدون مقابل. لقد توسع النظام في تقديم هبات للقريبين منه والمتنفذين، في شكل أصول ثابتة، كأراضي واستراحات ومزارع، وقروض بعيدة الأمد ولا تسترجع، وهبات نقدية. يمنح الحاكم هذه العطايا مكافأة على الولاء، ولتمتين علاقة الاعتماد والخنوع والتبعية. لذلك في هذا الوضع انقسم المجتمع من حيث الدخل الى فئتين رئيسيتين؛ طبقة عليا قليلة العدد، أفرادها من أصحاب الحظوة، التي يمكن أن يطلق عليها بعد تفكيك الطبقة المتوسطة القديمة، طبقة الأثرياء الجدد، أو الطبقة المتوسطة الجديدة، وطبقة باقي الليبيين. يمكن حساب متوسط دخل الفرد في طبقة باقي الليبيين؛ ذلك أن دخل الفرد فيها هو راتبه الشهري، أما متوسط دخل الفرد في طبقة الأغنياء فلا يمكن حسابه، لكن التمايز بين المتوسطين الحسابيين عالِ جداً. ولو أمكن حساب معامل جيني للدخل في ليبيا، بعد دمج الطبقتين، لاقتربت قيمة مؤشر التفاوت في الدخل على مستوى الأفراد من 0.6 أو حتى تجاوزتها، وهو مستوى من النادر أن يصل إليه في حالة بلد، إلا إذا كان يمر بحالة استثنائية. ولكن إذا حسب معامل جيني بالنسبة لمعدلات الدخول الرسمية، لما تجاوزت قيمة المعامل 0.2 أو 0.3. وهو رقم لا يمثل الواقع على الأرض. ولا شك أن التفاوت الكبير في الإمكانات الاقتصادية بين طبقة المتنفذين وباقي الليبيين، كان من بين العوامل التي ساهمت في ارتفاع درجة الغضب عند شريحة كبيرة من الليبيين، وكانت أحد العوامل التي قادت إلى انتفاضة 17 فبراير16.
26انتقد القذافي النظام الإداري، وصفه بالرجعية والبيروقراطية المتعفنة. استبدله باللجان الشعبية والمؤتمرات الشعبية تحت شعار (اللجان في كل مكان). صدرت الأوامر الى المواطنين بالزحف على المكاتب الحكومية، والمؤسسات بأنواعها بما في ذلك التعلمية، وتكوين لجان شعبية لإدارتها، وبهذه الكيفية ازيحت فئة ذوي الخبرة والاختصاص وحل محلهم من لا يملك معرفةً أو خبرةً. ثم جاء دور التقسيم الإداري، كانت البلاد مقسمة إداريا إلى عشر محافظات، الغي هذا في عام 1975، وقسمت البلاد إلى ست وأربعين بلدية، ولكل منها فروغ. بعد خمس سنوات قلص العدد الى خمس وعشرين بلدية، ثم إلى ثلاث عشرة بلدية، وأخيرا إلى سبع بلديات قبل أن يلغى بالكامل ويستبدل بالشعبيات. كان هدف هذه السياسة إضعاف درجة التراكم المؤسسي، وإشاعة حالة الفوضى الإدارية وتشجيعها.
ثورة 17 فبراير: العلاقة الهشة بين المجتمع والدولة
27اختلفت ثورة 17 فبراير 2011 عن ثورتي تونس ومصر، خرج الشباب إلى الشوارع بطريقة عفوية رافعين شعارات تؤكد على :"سلمية الحراك"، ولما رد النظام بعنف، تبدلت الشعارات إلى : "الشعب يريد تغيير النظام، والديمقراطية وبناء الدولة المدنية". وبعد أن سقط من بينهم جرحى وقتلى، بادروا إلى تكوين مليشيات مسلحة، انتظم معظمها على أسس عائلية وعشائرية وقبلية، وعند الهروب من ميادين القتال، فتش المدنيون عن الأقارب ولو كانوا يقيمون في أماكن بعيدة، وهكذا رجعت بعض الأسر إلى قراها التي هجرتها الى المدينة منذ سنوات طويلة. نظرا لأن الثورة انطلقت بدون قيادة أو برنامج معد مسبقا، تعددت خلفيات الذين شاركوا فيها، خصوصا الليبيين الذين رجعوا من الخارج، ومن كان منضما إلى جماعات المعارضة، انتظم في مليشيات على أسس عقائدية، وكانت لهم أجندات خاصة، تجاوزت الأهداف التي أعلنها الشباب، الذي بادر بالخروج إلى الشارع، وبعبارة أخرى، أهداف ليس من بينها الديمقراطية وبناء الدولة المدنية.
28أطلق كتاب وباحثون على الحراك الاجتماعي الذي شهدته المنطقة العربية، والذي انطلق من تونس ووصل الى أكثر من قطر عربي كلمة انتفاضة. لكن المجموعة من شباب مدينة بنغازي، الذين بادروا إلى تحطم جدار الخوف، الذي عاش في داخله الليبيون أكثر من أربعة عقود، عندما ساروا في تظاهرة من مبنى مديرية أمن بنغازي الى ميدان الشجرة ليلة الخامس عشر من شهر فبراير 2011، أطلقوا على حراكهم اسم ثورة. وهو حراك تحول منذ الأيام الأولى لانطلاقه الى صدام مسلح، دام حوالي ثمانية أشهر، قتل القذافي وهرب من عاش من رفاقه، وتحقق هدف الثورة الأول بمساعدة دولية.
29مرت إحدى عشرة سنة، تعاقبت في خلالها حكومات بمسميات متعددة (الانتقالية، والمؤقتة، والوفاق الوطني، والإنقاذ الوطني، والوحدة الوطنية). كان في كل واحدة وزراء ووكلاء وزراء ومدراء، إلا أن القوة الحقيقية بقيت في أيدي قادة المليشيات المسلحة بمختلف الأسلحة الثقيلة، الذين استمروا في التنافس على المكاسب السياسية والاقتصادية. ولأن المحسوبية والمحاصصة المتغير الرئيس الذي على أساسه يتم تعيين الموظفين، عملت كل مليشيا بنشاط لوضع أكبر عدد من التابعين إليها في مواقعَ مهمةٍ، خصوصا تلك التي يتحكم شاغروها في تحريك الأموال في الداخل والخارج بسهولة. أولوية شاغل الموقع الحكومي، في الحكومات التي تعاقبت على إدارة شؤون الدولة في خلال الاحدى سنة الأخيرة، ليست خدمة جميع المواطنين، إنما استخدام الموقع الحكومي لخدمة أقاربه وشركائه، والحصول على أكبر قدر من الفوائد والمكاسب المادية لنفسه، لذلك لم يكن أمراً مستغرباً، عندما صنفت منظمة الشفافية ليبيا، على أنها الدولة رقم 173 الأكثر فساداً، من بين 180 بلداً في مؤشر مدركات الفساد لعام 172020.
خاتمة
30عندما ظهرت الدولة الحديثة في ليبيا في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين كانت دولة مدنية؛ لها دستور وقوانين تحدد العلاقات بين المواطنين، وبين مؤسسات الدولة وهياكل ومؤسسات المجتمع، وسادت علاقات التعاون والتكامل بين الدولة والمجتمع. تغيرت هذه العلاقات بمجرد حدوث الانقلاب العسكري بقيادة القذافي، الذي عبر منذ الأيام الأولى للانقلاب العسكري عن نيته في تغيير الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمع الليبي، وبالطبع طال التغيير العلاقات بين الدولة والمجتمع.
31وضع القذافي برنامجا لتفكيك الدولة والمجتمع وإعادة تركيبهما وفق أيديولوجية يتبناها. تضمن برنامج التفكيك عددا من المراحل، وفي كل مرحلة مجموعة من المهمات نفذت ضمن مواعيد، ووفق أهداف أعلن عنها بوضوح، وتحت اشرافه المباشر. تضمنت خطوات تفكيك الدولة إلغاء الدستور وتسفيه فكرة تعويضه بدستور جديد، وتعطيل جميع القوانين المعمول بها ليصبح هو مصدر التشريع، وإلغاء الحكومة بتعريفها الكلاسيكي وحل محلها تنظيم شعبوي أطلق علية اللجان الشعبية، أخذ يتشكل من يوم لآخر عن طريق خطابات ألقاها في تجمعات جماهيرية. أخذ النظام الحكومي الجديد في مظهره الخارجي نموذج توسيع المشاركة الشعبية، لكنه سرعان ما تبين أنه نظام شديد المركزية؛ إذ تحكم القذافي في جميع القرارات، ما أدى إلى توسيع الهوة بين الدولة والمجتمع.
32كما شملت خطوات تفكيك المجتمع تأميم الصحافة وإلغاء مختلف مكونات المجتمع المدني، وإحداث تغييرات جوهرية في نسق القيم؛ إذ وصفت قيم بعينها بأنها رجعية، كتلك التي تحض على احترام التراتبية المبنية على السن والمعرفة والخبرة والمكانة الاجتماعية، واحترام الملكية الخاصة، والمحافظة على المال العام. لتحل محلها قيم أطلق عليها لقب ثورية، تصدرتها التي تحض على الخروج عن طاعة الرئاسات التقليدية بجميع أنواعها. كما اتخذت إجراءات انعكست سلبا على بعض الهياكل الاجتماعية الضرورية لاستقرار حالة تماسك البناء الاجتماعي ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر: التغيير المستمر للتقسيمات الإدارية التي تسببت في تعدد انتقال مناطق استقرار السكان ما أفضى إلى انتشار بؤر جديدة للتوتر بين الجيران، خصوصا في المناطق المرتبطة بسيطرة قبائل بعينها. وكذلك الاستمرار في إيجاد تكوينات جديدة، وتكليفها بمهام تدخل في اختصاصات لجان أو مؤسسات موجودة مثل : تنظيم "القيادات الاجتماعية الشعبية" التي جل أعضائها من القيادات التقليدية مثل شيوخ القبائل والوجهاء المحليين. وقد أدت هذه الإجراءات إلى زعزعة استقرار بعض الهياكل الاجتماعية التي لها تاريخ طويل، وتلك التي استحدثت مؤخرا، وفي طريقها الى الترسخ والاستقرار، بحيث ساهمت في إضعاف دور المجتمع.
33أطاحت ثورة 17 فبراير 2011 بنظام القذافي، انهارت الدولة وتعاقب على حكم البلاد منذ ذلك التاريخ خمس حكومات، لم تستطع أيا منها أن تسترجع للدولة أهم مجالين من مجالات اختصاصها وهما : احتكار السلاح والضبط الاجتماعي للعنف الشرعي. لقد اضطرت كل حكومة أن تتعاون من مليشيات قائمة، إلى جانب إنشاء تشكيلات مسلحة جديدة لكي تنفذ من خلالها الحد الأدنى من تنظيم المجتمع، بينما حافظت مليشيات كثيرة على درجة عالية من الاستقلال، وفرضت سيطرتها على مساحة جغرافية معينة كمدينة أو جزء من مدينة، وقامت ببعض مهمات الدولة كالعنف والضبط الاجتماعي وتحصيل الأموال. الكثير من المليشيات نفذت مثل هذه المهمات بوسائل غير إنسانية شملت التهديد والتعذيب وحتى القتل.
34الملاحظ أن القيادات السياسية وزعماء المليشيات وزعماء مافيا التهريب، قد دخلوا في سباق من أجل خدمة المصالح الشخصية، وتعظيم الفوائد المادية، ما أدى إلى عرقلة جميع المحاولات التي بذلت حتى الآن، بما في ذلك تلك المدعومة من بعض منظمات الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لإعادة بناء العلاقات الهشة بين الدولة والمجتمع.
35غادر القذافي المشهد السياسي، وبقيت آثاره، ويبدو أنها ستظل إلى أمد بعيد تسيطر على الأنماط السلوكية لعدد كبير من الليبيين، متسببةً في استمرار حالة الفوضى العارمة، وتداعياتها السلبية على العلاقة بين الدولة والمجتمع.
Bibliographie
بن حليم، مصطفى أحمد. صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسي : مذكرات رئيس وزراء ليبيا الأسبق. لندن : الهاني للكتب الدولية، 1992.
بوطالب، محمد نجيب بوطالب. سوسيولوجيا القبيلة في المغرب العربي. سلسلة أطروحات الدكتوراه، 31 (بيروت مركز دراسات الوحدة العربية، 2002).
التير، مصطفى عمر. أسئلة الحداثة والديمقراطية في ليبيا : المهمة العصية. (بيروت : منتدى المعارف، 2013).
التير، مصطفى عمر. صراع الخيمة والقصر، رؤية نقدية للمشروع الحداثي الليبي. (بيروت : منتدى المعارف، 2014).
التير، مصطفى عمر. الثورة الليبية : مساهمة في تحليل جذور الصراع وتداعياته. (بيروت : المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020).
شربل، غسان. في خيمة القذافي : رفاق العقيد يكشفون خبايا عهده. (بيروت : رياض الريس للكتب والنشر، 2012).
الصواني، يوسف محمد."انتفاضة 17 فبراير في ليبيا : إسقاط النظام وقضايا بناء الدولة" في : يوسف محمد الصواني وريكاردو رينيه لاريمونت(محرران). الربيع العربي : الانتفاضة والإصلاح والثورة. ترجمة لطفي زكراوي. (بيروت : منتدى المعارف، 2013).
القذافي، معمر. السجل القومي : بيانات وخطب وأحاديث، مج 4. (طرابلس : المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، 1972/1973).
المقريف، محمد يوسف. ليببا من الشرعية الدستورية إلى الشرعية الثورية : من الملكية الدستورية إلى النظام الجماهيري.، ط 2 (أكسفورد : مركز الدراسات الليبية، 2014).
المقريف، محمد يوسف. "صفحات من تاريخ النظام الانقلابي في ليبيا". موقع ليبا المستقبل. 03/03/2010، شوهد في 05/03/2022، في : archive.libya-al-mostakbal.org/Articles2010/dr_mohammad_elmgarief_030310.html.
منظمة الشفافية الدولية. تقرير مدركات الفساد لعام 2020 .
Notes de bas de page
2 يمثل هذا التعريف للقبيلة تلخيصا مختصرا للتصور السائد لدى الليبيين، لكن لابد من التأكيد على أن القبيلة العربية حظيت باهتمام الأنثروبولوجين عربا وغربيين، وطوروا تعريفات أكثر توسعا، وهي منشورة في عديد الكتب، نشير فقط لواحد منها على سبيل المثال لا الحصر: محمد نجيب بوطالب، سوسيولوجيا القبيلة في المغرب العربي، سلسلة أطروحات الدكتوراه، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2002.
3 كانت ليبيا عندما قامت الحرب مستعمر إيطالية، وبعد هزيمة دول المحور، دخلت قوات الجيش البريطاني إلى الأراضي الليبية من الحدود مع مصر، بعد هزيمة قوات المحور في معركة سيدي براني، ودخلت القوات الفرنسية الى الجنوب الليبي من تشاد. تولى الجيش البريطاني تنظيم إدارة عسكرية في الشمال الليبي (برقه وطرابلس)، وانتظمت إدارة عسكرية فرنسية في الجنوب (فزان). سمحت الإدارة العسكرية في الشمال بإنشاء أحزاب وتنظيمات مجتمع مدني. وعليه حدث حراك شعبي كبير للمطالبة بالاستقلال، وبسبب ذلك الضغط الشعبي، لم يتفق زعماء الدول المنتصرة في الحرب على مستقبل المستعمرة، لذلك أحيل الموضوع الى الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي أصدرت في يوم 21 فبراير القرار رقم 289 لعام 1949 الذي منح ليبيا الاستقلال، في موعد لا يتجاوز يناير 1952. ثم حدثت توافقات بين القيادات الليبية بالنسبة لشكل الحكم ورئاسة الدولة. الدولة
للتوسع في هذا الموضوع، والاطلاع على التسلسل التاريخي للأحداث، التي أدت الى استقلال ليبيا، والى المشكلات التي واجهت بناء الدولة، خلال السنة الأولى من بداية تكوين الأجهزة التي تحتاج اليها دولة عصرية، يمكن الرجوع إلى كتاب: مصطفى بن حليم، صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسي: مذكرات رئيس وزراء ليبيا الأسبق، لندن: الهاني للكتب الدولية، 1992.
4 المصدر نفسه، ص. 106.
5 مصطفى عمر التير، أسئلة الحداثة والديمقراطية في ليبيا: المهمة العصية، بيروت : منتدى المعارف، 2013، ص. 266-268.
6 بن حليم، ص. 391-393.
7 المصدر نفسه، ص. 105.
8 مصطفى عمرالتير، صراع الخيمة والقصر، رؤية نقدية للمشروع الحداثي الليبي (بيروت: منتدى المعارف، 2014)، ص. 46.
9 بالنسبة للخطاب في مؤتمر المعلمين ينظر نفس المصدر، ص. 51، وأما بالنسبة للإشارة الى الدستور، فإن تلك العبارة وردت في الكلمة التي ألقاها القذافي في 08/12/1969 لمناسبة الجلسة الأولى للمحادثات حول إلغاء الاتفاقية الليبية – البريطانية، محمد يوسف المقريف، ليببا من الشرعية الدستورية إلى الشرعية الثورية : من الملكية الدستورية إلى النظام الجماهيري، ط 2 (أكسفورد : مركز الدراسات الليبية، 2014)، ص. 173.
10 ينظر الحوار مع عبد المنعم الهوني، في غسان شربل، في خيمة القذافي : رفاق العقيد يكشفون خبايا عهده (بيروث : رياض الريس للكتب والنشر، 2012)، ص. 148- 149.
11 معمر القذافي، السجل القومي : بيانات وخطب وأحاديث، مج 4 (طرابلس : المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، 1972/1973)، ص. 642 - 643.
12 يشكك الكثيرون في زعم الدكتور محمود سليمان المغربي، الذي ترأس أول حكومة بعد الانقلاب العسكري، بأن جذوره ليبية. ولد في عام 1933 في مدينة حيفا بفلسطين، حاصل على الجنسية السورية. قدم إلى ليبيا في عام 1965 للعمل في شركة اسو للنفط، حصل على الجنسية الليبية في عام 1966. ودخل السجن في عام 1967 بتهمة تحريض العاملين في مجال النفط على التظاهر، وصدر عليه حكما بالسجن أربع سنوات، وأفرج عنه قبل انقضاء مدة الحكم. محمد يوسف المقريف، صفحات من تاريخ النظام الانقلابي في ليبيا، موقع ليبا المستقبل، 03/03/2010، شوهد في 5/3/2022، فيarchive.libya-al-mostakbal.org/Articles2010/dr_mohammad_elmgarief_030310.html :
13 مصطفى عمر التير، الثورة الليبية : مساهمة في تحليل جذور الصراع وتداعياته (بيروت : المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، ص. 53-54.
14 في عام 1975، جرت محاولة انقلاب، بقيادة عضو مجلس قيادة الثورة الرائد عمر المحيشي، شارك فيها ثلاثة آخرين من أعضاء مجلس الثورة وهم: الرائد عبد المنعم الهوني والرائد بشير هوادي والرائد عوض حمزه. أدرك القذافي أن زملاءه قد يتآمرون عليه، وهذا ما دعاه إلى العودة إلى القبيلة.
15 يوسف محمد الصواني، "انتفاضة 17فبراير في ليبيا : إسقاط النظام وقضايا بناء الدولة" في : يوسف محمد الصواني وريكاردو رينيه لاريمونت (محرران)، الربيع العربي : الانتفاضة والإصلاح والثورة، ترجمة لطفي زكراوي (بيروت : منتدى المعارف، 2013)، ص. 177 – 156، 130.
16 التير، الثورة الليبية، ص. 25-26.
17 ترتيب ليبيا على مؤشر مدركات الفساد لعام 2020 Transparency International, Corruption Perceptions Index :
Auteur
Professeur de sociologie à l'Académie libyenne des Hautes études
Le texte seul est utilisable sous licence Licence OpenEdition Books. Les autres éléments (illustrations, fichiers annexes importés) sont « Tous droits réservés », sauf mention contraire.
La formation des élites marocaines et tunisiennes
Des nationalistes aux islamistes 1920-2000
Pierre Vermeren
2022