سياسة الاستيعاب والتجنيس الفاشية في ليبيا الإيطالية (1934-1939)
p. 113-133
Texte intégral
1بموجب المرسوم الملكي التشريعي رقم 2012 الصادر يوم 3 ديسمبر من عام 1934، فإن المستعمرة الشمال أفريقية ستحمل رسمياً بداية من ذلك التاريخ اسم ليبيا، وستصبح مستعمرة واحدة (مقرُّها الرئيسي طرابلس) توحد من الناحية الإدارية إقليمي طرابلس وبرقة، والتي كانت تعتبران سابقاً مفرزتين إيطاليتين منفردتين. ومع وصول ايتالو بالبو2، حاكم طرابلس وبرقة منذ يناير 1934، ظهرت على ما يبدو متغيرات جديدة حول موضوع إدارة المستعمرة، مثل قضايا التعاون والتكامل بين المواطنين الليبيين والمستوطنين الإيطاليين، وبين المواطنين الليبيين و"الوطن الأمّ إيطاليا". فبعد عامين من القمع الذي تمّ به سحق المقاومة الليبية في برقة، على يد غراتسياني3. في عام 1932، سعى بالبو إلى اتباع سياسة المصالحة مع الليبيين.
2لقد أراد الحاكم الجديد أن يُظهر - وبالتأكيد كان سيظهر لاحقاً- بأن السكان المحليين للبلد منفتحون على التطور والحضارة الذي روّجت له الحكومة الاستعمارية الإيطالية، وكان ايتالو بالبو يعتقد أن هؤلاء السكان قادرون على ذلك، أو بالأحرى جعل القوانين المستوردة من إيطاليا تساعد على ذلك. وكان قصد الحاكم الإيطالي تحويل النسيج الاجتماعي للمستعمرة تدريجياً إلى مستوى أكثر متانةً ورخاءً في ظل الحياة الاجتماعية الجديدة، وبجوانبها العديدة. وقد تمثلت الرؤية المثالية، التي كان من المفترض أن تتحقق، في التكوين العام لـ(الشاطئ الرابع). لكن ثمار هذه السياسة لم تُحصد إلا في وقت لاحق، وبقدر معين ومحدود، وفي حقيقة الأمر شهد الخط الحكومي، الذي عبرت عنه أو حددته هذه اللوائح تطوره الكامل - كما سنرى لاحقاً- في نهاية عام 1938. وفي هذا الظرف قاس المارشال بالبو نفسه بهذا المشروع من خلال تبنيه المعتاد للمبادرات الحيوية، لكنه لم يجد أرضية خصبة كافية لترسيخ اقتراحه هذا. وبشكل أكثر تحديداً، فإن مشروع قانون 1939 - الذي تمت مناقشته بشكل أكثر دقة واستفاضة في الفقرة الأخيرة من هذا البحث - مثّل مسألة مؤسسية مركزية حيث لم يؤد الا لمنح الحق في الجنسية الإيطالية الخاصة المنسوبة حصريّاً إلى بعض المواطنين الليبيين الإيطاليين، وليس لغالبية السكان المحليين للبلد.
تدابير الإصلاح والاستيعاب
3عمل الحاكم الجديد على ترتيب إجراءات جديدة تهدف دائماً إلى الحصول على لقب "صديق العرب [السكان المحليين]"، وبدأت أعمال المسؤول الكبير في المستعمرة المطلة على البحر الأبيض المتوسط بمقولة أكّدها مراراً وتكراراً : "أنا معجب بهؤلاء الشمال إفريقيين [الليبيين]، الأذكياء والرجوليين، الذين تساوي كلمتهم أكثر من أي وثيقة مكتوبة"4. كان هدفه الاقتراب من الشعب المستعمر، قصد منع ظهور مشاعر العداء، وانفجار الصراعات من جديد بين الحكومة الاستعمارية والسياق، أو المحيط الليبي المحلي، وفي كتابه عن الاستيطان الإيطالي في ليبيا، بعنوان (الشاطئ الرابع)، يوضح الباحث الإنجليزي مور بإسهاب كيف كان بالبو فطناً وحذراً فعلاً في تعامله مع السكان المحليين؛ لأنه كانت لديه رغبة شديدة في أن يكون محبوباً من قبل هؤلاء، حتى أنه ذهب إلى حدّ القول بأنه لم يكن ليكتمل وينجح مشروعه الاستيطاني، لو كان الثمن هو عداء العرب الليبيين وتهميشهم. ولعلّ عدم التضحية الكاملة بمصالح هؤلاء لصالح الإيطاليين؛ جعل هذه الحكومة قادرة على كسب ثقة السكان الأصليين5، وبالتالي فإن خطة بالبو لليبيا، في هذا المبدأ التوجيهي المحدد، كانت ستتألف من تدابير وإجراءات استيعاب وتجنيس الليبيين.
4لقد التزم هذا الأخير في خطوة أولى نحو استيعاب الثقافتين الإيطالية والليبية، وهو كان يدرك جيداً كيف أن بعض التقاليد الاجتماعية المحلية كانت قديمة جداً بالنسبة للعرب الليبيين، وأنها متجذرة بعمق في إطار المجتمع6 ؛ لذلك كان البديل من وجهة نظر (البالبيانا) هو التعامل مع هذه القضايا الاستثنائية من الجذور ومن خلال تنفيذ سياسة قائمة بعناية على كبح جماح العادات والتقاليد المحلية التي اعتبرها "غير متحضرة"، وكانت تتعارض أيضاً مع العقيدة الإسلامية السمحة. وفي هذا الصدد قال الحاكم الإيطالي: "إنها مهمة شاقة ودقيقة إذا أخذنا في الاعتبار أنه بين شعوب الحضارة المتخلفة تنتشر الرذائل الأكثر شيوعاً للحياة الحديثة بسهولة أكبر بكثير، مما يمكن القضاء على تلك العادات الرجعية القديمة التي تعارض التطور الاجتماعي للسكان أنفسهم"، وأضاف بالبو: "إن الدين الإسلامي، بقدر ما هو مستوحى من المبادئ الروحية والأخلاقية السليمة ذات القيمة الإنسانية العالية، التي لا جدال فيها، كان أداة مفيدة للغاية [اسُتغل من البعض] لهذا الغرض. لكن الحكومة الفاشية لم تستطع تجاهل بعض الانحرافات الضارة التي لا تمثل شيئاً سوى تشويه غير أخلاقي للدين [الإسلام]، وتغيير روحه، وخلق تناقضات صريحة مع طبيعة الحضارة الأوروبية"7.
5في مواجهة هذه التقاليد المحددة، ومن خلال أول عمل رسمي صدر في سبتمبر 1935، وذلك بعد لقاء جمع بالبو مع عدد من الوجهاء ورجال الدين المسلمين ناقش فيه الطرفان هذه القضايا المطروحة، تم اتخاذ بعض القرارات المحددة بالاتفاق المتبادل، وتقرر -على سبيل المثال- عدم السماح بزواج القاصرات دون سن الخامسة عشرة8. وحول هذه النقطة الأخيرة ذكر بالبو: "كان من الأهمية بمكان أخلاقيّاً واجتماعيّاً أن يكون هناك تحديد أكثر دقة للحد الأدنى لسنّ العرائس [...]، لم يعد القضاة والأئمة يسمحون حالياً بتسليم العروس للزواج قبل بلوغ سنّ 15 عاماً"9. كما أنكر الحاكم قبوله أو استحسانه لتلك الأشكال من المبالغة في المهر والجهاز، وما يتعلق بالتحضير للزفاف، ومواعيد وأماكن الاحتفال بهذه المناسبة، وكجزء من هذه الإصلاحات، طالب بالبو بإلغاء هذه التجاوزات من خلال الحدّ من تكاليف حفلات الزواج، وقصر إقامتها على أماكن محددة، وكذلك تجنب المواكب في الشوارع، معتبراً أن هذه التصرفات تباهياً وتفاخراً غير مبرر. كما وضع قيوداً على ليالي حفلات الزفاف، وذلك لما ينجم عنها من صخب وضجيج، مؤكداً على وجوب الامتثال لإملاءات الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بالطقوس المصاحبة لهذه الاحتفالات10. وعلى رأس القضايا، التي تناولتها برامج الحاكم الإيطالي الإصلاحية، كانت هناك حاجة لإلغاء تلك العادات، التي كانت تتعارض مع الحضارة والمدنية، والتي كانت تمارس أثناء الجنازات: الصراخ، والصفع، ولطم الخدود، وتمزيق الملابس11. بالإضافة إلى ذلك فقد تمّت مناقشة بعض القضايا المتعلقة ببعض ممارسات الزهد أو التقشف، المؤلمة لجسم الإنسان والمثيرة لدهشة واستغراب ملاحظيها؛ فتمّ منع إقامة طقوس الشعوذة12، التي كان يمارسها بعض الدراويش المتعصبين المنتمين لبعض الفرق التابعة للتيّار الصوفي13، الذين اعتادوا ضرب أنفسهم بالسكاكين والسيوف، وجلد أجسادهم بالسياط حتى خروج الدم، ولعق المعدن المنصهر، وابتلاع الشفرات والزجاج...إلخ. لقد أصرّ الحاكم الإيطالي على موقفه حتى يتم التخلي عن هذه الممارسات لأنها ـ على حدّ زعمه ـ لم تكن متوافقة تماماً مع تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، ولكونها أيضاً لا تنسجم مع خطط التقدم والتوسع العمراني التي كانت على وشك أن تُترجم إلى واقع ملموس على أراضي المستعمرة الليبية في وقت ولايته14. ومما تجدر الإشارة إليه أن نتذكر أن القرآن الكريم نفسه، كأول دستور للمسلمين، يُحرِّم العادات البغيضة وغير المتحضرة، وكذلك المظاهر الدينية المتعصبة، كما يعترف بذلك بالبو نفسه15، ومع ذلك أعطى بعض العرب الليبيين المسلمين تفسيراً مرِناً ومتحرِّراً لهذه النظم والقواعد.
6من الواضح أن بالبو شرع في إجراء بعض التغييرات الجوهرية في النسيج الليبي التقليدي: على سبيل المثال، ووفقاً لبرنامجه الإصلاحي كان يتوجب عليه استبدال بعض العادات العنيفة السابقة بعادات أخرى أكثر حضارة وإيجابية، تهدف إلى تطوير المجتمع الليبي المحلي. وبفعل تنظيماته وترتيباته الجديدة وفي هذا الصدد أفاد الحاكم العام: "لقد سبق أن أشرنا إلى الإلغاء الجذري لممارسات الدراويش الزائفة، التي كانت لها مظاهر بغيضة ووحشية من التعصب، ولكن لم يقتصر عمل الحكومة على مكافحة هذه الأوبئة والآفات العنيفة، ومع ذلك كانت هذه الأخيرة محفورة بشكل أعمق في العادات والتقاليد المحلية، [...] حفلات الزفاف وطقوس الجنائز، والاحتفالات الخاصة بالشعائر والمراسم الدينية، وأنشطة المدارس القرآنية - جُردت من المظاهر الخارجية غير المتحضرة، التي أدت إلى التبذير وانتشار الآفات المُعدية والممارسات المتعصبة المؤذية"16. لا يبدو الباحث صلاح السوري متفقاً تماماً لدعم هذه الأطروحة، وبحسب المؤرخ الليبي، فإن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في هذا الصدد لم تمتد إلى جميع العادات البغيضة، كما صرحت بذلك السلطات الإيطالية، حيث تمّ فقط حظر نشاط الصوفيين، الذين كانوا يعتبرون معارضين للوجود الاستعماري الإيطالي في ليبيا. ومن ناحية أخرى استطاعت الحكومة استمالة الفرق الصوفية المهتمة فقط بترتيل الترانيم والأذكار والمدائح على صوت الدفوف. فعلى سبيل المثال وخلال زيارة الدوتشي إلى مدينة طبرق في 12 مارس 1937، بمناسبة افتتاح الطريق الساحلي الليبي، كانت المجموعات الصوفية المنتمية للطريقة العيساوية والعروسية والرفاعية من بين الفرق المشاركة في هذا الحفل الكبير. وبهذه المناسبة، وبالإضافة إلى رفع الأعلام الخاصة بهذه الفرق الصوفية التي كانت تزين المكان، كانت تسمع أيضاً ترانيمهم، ممزوجة بأصوات الطبول والدفوف، ترتفع كعلامة ترحيب بالزعيم موسوليني17.
7وبالتالي فمن الممكن تقييم شعور العرب الليبيين تجاه التزام بالبو بتنفيذ هذه الإصلاحات. وكقاعدة عامة، من الواضح أنه عند اعتماد بعض الإجراءات التقييدية، لا سيما في مجالات حساسة، على سبيل المثال كتلك التي تمليها المشاعر والعواطف الليبية التقليدية، كان يتم وضع نية واضحة موضع التنفيذ، أي تلك المتعلقة بالاتفاق مع المرجعيات الدينية المسلمة. ووفقاً لمارتن مور، تمّ التعامل مع هذه الأمور بحذر شديد، وفي واقع الأمر لم يتخذ الحاكم بالبو قرارات بمنع هذه الممارسات، حتى نجح في كسب مؤازرة أعيان البلاد وقضاة ورجال الدين18 : "ربما ساهمت تصرفات بالبو - كما يلحظ كلاوديو سيغري - في الحصول على إجماع معين بين الليبيين [...] الأعيان - القضاة وقادة السكان الأصليين، الذين استشارهم بالبو قبل إصدار أهم القوانين - أيدوه لأنه دعمهم [...]"19.
8يبدو أن بالبو كان ملتزماً بشكل خاص بدعم وتشجيع إصلاح البُنية أو الهيكلية البدائية القديمة للمجتمع الليبي بدلاً من تغييرها بالكامل من خلال تشجيع هذا المجتمع نفسه، محرك هذا الطموح. وكما يلحظ باسي، كان قد رفع من مستوى التطور في ليبيا الذي انتقل من المرحلة "البربرية الأولية" إلى واقع التحديث وآفاق الحضارة الإيطالية20. وعلى الأقل كان هذا هو الهدف الرئيسي المعلن من الغرض وراء السعي لرفع حالة المستعمرة الإيطالية إلى ما فوق مستوى الإمبراطورية الإنجليزية والفرنسية، وكان هذا بالضبط هو الواقع الذي انعكست فيه الآراء نفسها، التي روّج لها بالبو، على وجه الخصوص، خلال اجتماعات مؤتمر فولتا الذي عقد في روما في الفترة ما بين 4 و11 أكتوبر 1938. خلال ذلك الاجتماع قدّم الأخير بعض المبادئ أو الخطوط التوجيهية والإرشادية لعمله كحاكم عام لليبيا21 مبرزا أن الهدف الرئيسي لعمله هو تحديث وضع القبائل البدوية، التي كانت تتخذ من حياة التنقل في الصحراء، بأوامر الزعيم الديني السياسي، سُبُلاً للعيش وذلك وفقاً للتقاليد القديمة التي تعود إلى زمن الهجرات الكبرى والغزوات البربرية. على المدى القصير أفاد بالبو بأن وضعا مثل هذا: "لن يكون أكثر من ذكرى بعيدة في الأقاليم الليبية الجديدة، حيث تتوهج وتنبض فيها روح الابتكار وصانع النظام الفاشي. عهد العشيرة، في هذه المقاطعات يقترب من الزوال إلى الأبد [...]"22.
9يمكن الاستنتاج أن الحاكم الإيطالي، بمشروعه الإصلاحي المعقد، كان يهدف إلى وضع هؤلاء السكان في المقاطعات الليبية الجديدة ضمن قوالب استعمارية ومؤسساتية، وبهذه الطريقة كان ينوي دمج شخصية الفرد المنتمي للقبائل في واقع اجتماعي مختلف بالنسبة له، ولكنه أوسع وأكثر تطوراً. وبالتالي فان هدفه إخراج الأفراد الرُّحّل من التجمع العرقي التقليدي الذي ينتمون إليه ليتمّ تضمينهم ودمجهم في البلديات والمراكز السكنية الإيطالية الجديدة في التنظيم الحضري للمحافظات ومناطق المقاطعات، ومن ثم سيتم دمج شخصياتهم الفردية الذاتية في مجمل نظام آلة الحكومة وإدراجها وفقاً للمنظور المغري لفوائد حالة حديثة23.
10إذا أخذنا في الاعتبار الواقع البدوي، الذي طالما قدّم موقف القبيلة على أنه معارض قويّ للميول وللاتجاهات التحديثية التي كانت تهدف إلى اكتساب نوع جديد من الحياة يتجاوز المعتقدات الشائعة حول الشكل التقليدي البدوي، فأننا نلاحظ أن الحاكم بالبو لم يتصرف في تجاهل تامّ للمحيط الذي أُدرج فيه، كما كان يمكن أن يفعله المستبدّ الشمولي. وبهذا الخصوص قال بالبو نفسه : "أعرف عرب ليبيا. إن روح التفاهم والتكيف التي أظهروها فيما يتعلق بمسألة تعويضات أراضي المستوطنين [الإيطاليين] ؛ هي علامة أكيدة على ثقتهم الكاملة في الحكومة، وسوف يتبعون بأمانة توجيهاتها وإرشاداتها"24. كان يعلم أنه بهذه الطريقة فقط يمكنه الحصول على استحسان وموافقة المواطنين الليبيين المسلمين على هذه السياسة تم توصيفها بأنها "أبوية"، وقد قبلها السكان الأصليون كحلّ لمجموعة من قضايا الحياة الاجتماعية اليومية بينهم وكذلك مع الإيطاليين داخل نطاق أو إطار الدولة.
11وفي استنتاج مخالف، يرى المؤرخ روشاه أن أبوية بالبو الاستبدادية كانت واضحة بشكل خاص في نشر النشاط الاستعماري الإيطالي الفاشي في جميع المجالات الاجتماعية والقانونية والمدنية لليبيا المحتلة. كما يعتقد روشاه أن هذه الأبوية الأيديولوجية والدعائية اتخذت سمات وخصائص استبدادية وعنصرية تعارض الاستقلال الذاتي الكامل لليبيين. كما يشير أن من بين ملامح استبداده الإمبراطوري هذه هي عدم القدرة على احترام شخصية شعب آخر غير الإيطالي على الرغم من أن الموقف الذي أظهره بالبو تجاه هؤلاء كان أكثر تقديراً من ذلك الذي اتبعه أسلافه، والذي كان يعتبر الأكثر تسلُّطاً واستبداداً25.
12كان من الممكن أن تعكس مواقف الحاكم بالبو نمط المستعمر الحديث، الذي كان ممتثلاً وتصالحيّاً في نفس الوقت. ومع ذلك لا ينكر المؤرِّخون روحه التحديثية والطليعية الصادقة أيضاً فيما يخصّ موضوع الفصل العرقي والفصل أو العزل العنصري. في هذه الحماسة التحرُّريّة، ربما كان مخفيّاً -من ناحية- شعور بالذنب تجاه السكان الخاضعين الذين كان يُنظر إليهم على أنهم فقراء ومتخلفون وعُزّل ولا حول لهم ولا قوة، ومن ناحية أخرى، إرادة حقيقية محتملة لمساعدة وإغاثة أولئك الذين عاشوا في أقفاص اجتماعية مغلقة ومختنقة. علاوة على ذلك فلا ينبغي إغفال أن هذه المحاولة لتغيير البُنية أو التركيبة البدائية للسكان المحليين هي جزء من السياسة البالبية، التي تهدف إلى منح الجنسية الإيطالية لليبيين المسلمين.
مشروع تجنيس وإدماج السكان المحليين
13في اتجاه آخر سعى بالبو أيضاً، إلى جانب التدابير التي تهدف إلى الاستيعاب الثنائي للمستوطنين الإيطاليين والشعب الأصلي للبلاد، على استخدام الموارد المُعدة للاندماج26. وفيما يتعلق بهذا التوجه، أعلن بالبو نفسه بعبارات استباقية تنم على الثناء. ففي مؤتمر فولتا المذكور أعلاه، لم يعترف الحاكم فقط بأهمية التعايش السلمي بين السكان الأصليين والإيطاليين على الأراضي الليبية فحسب، بل أكد أيضاً على أن تنفيذ هذا الاندماج كان له على الفور نتائج ممتازة27.
14في هذا التصريح أو البيان الرسمي، تم التأكيد على أن مستوى الاستيعاب بين الطرفين بلغ مستويات جيدة، أعلى من تلك التي حصلت عليها القوى الاستعمارية الأخرى التي استقرت في شمال أفريقيا قبل فترة طويلة من الجيوش الإيطالية. ومن وجهة النظر البالبية كان من المفترض أن تكون ليبيا بمثابة بوتقة تنصهر فيها، ليس القوة المحتلّة والشعب الخاضع لسلطتها، بل أيضاً الكاثوليك الإيطاليين والمسلمين الإيطاليين، كلاهما كانا متحدين بشكل لا ينفصم، وأبطال في التاريخ المشترك لخيال أو بالأحرى لأوتُوبيا (المدينة الفاضلة) الإمبراطورية الفاشية. ولا يمكن بالتأكيد التغاضي عن درجة الترابط، والحاجة إلى التكامل بين الليبيين والإيطاليين والتي تقتضيها متطلبات الحياة على مستوى العلاقات اليومية ولاسيما في مجال العمل. فإلى جانب الاتصال الرسمي بين الحكومة الإيطالية ووجهاء البلاد والعاملين في إدارات الدولة، أي على المستوى المؤسسي والحكومي، انتشرت العلاقات غير الرسمية بين الجانبين في مختلف المجالات خاصة مع أولئك الذين لم يعطوا أهمية لمسألة الفصل والتمييز العنصري في القطاعات التجارية والزراعية، والنقل والصناعات والحرف اليدوية كالميكانيكا والنجارة والمرافق الصحية وغيرها من الخدمات الأخرى28.
15كان الهدف الرئيسي في هذه الحالة هو القضية الإشكالية المتعلقة بالتجنيس داخل الدولة. تجدر الإشارة إلى أن المسألة المتعلقة بوضع السكان الأصليين، ومفهوم منح الجنسية الإيطالية (الجنسية الاستعمارية) في المستعمرة الشمال أفريقية، قد أثير بالفعل بدءاً من لوائح 1 يونيو و31 أكتوبر 1919 و26 يونيو 1927. فمن خلال المراسيم الصادرة في 1919، يمكن لمواطني طرابلس وبرقة التقدم بطلب للحصول على الجنسية الليبية الإيطالية واكتسابها. ومن خلال هذين المرسومين، كان لمواطني هاتين المقاطعتين بعض الحقوق السياسية والانتخابية، علاوة على ذلك، أتيحت لهم الفرصة للمشاركة في اجتماعات اثنين من البرلمانات المحلية، اللذان تم إنشاؤهما في ذلك الوقت. بينما في فترة ما بعد الليبرالية (إيطاليا الفاشية) وبموجب المرسوم المذكور الصادر في 1927، تم تغيير وضع المواطنين الخاضعين إلى حالة (المواطنين الإيطاليين الليبيين)، ونتيجة لذلك، ألغي القانون الانتخابي والبرلمانات المحلية29. وبالتالي غيّرت، تدريجياً وبمرور الوقت، مجموعة من الأسباب المختلفة ذات الصبغة السياسية، مثل الاختلاف العقائدي بين السلطات الليبرالية والفاشية، المفهوم الذي كان من الممكن إدراكه عندما وصل بالبو إلى ليبيا بأسلوب هذا الأخير النموذجي. فمن خلال إجراءات 1934، يمكن منح المواطن الليبي الإيطالي ما يسمى بـالجنسية الوطنية (الإيطالية الصرفة)، وذلك بناءً على طلب محدد، مع توافر بعض الشروط المنصوص عليها في المادة 37 من القانون نفسه30.
16يبدو أن الحاكم بالبو أراد التحرُّر من الأوصاف البذيئة، وأحكام التباهي والإعجاب بالنفس، التي عبّر عنها علم الاجتماع الاستعماري، من خلال جعل -وبطريقة ما- العنصر المحلي الليبي مناسباً للتجنس. وقد يكون هذا، كما تمنّى بالبو نفسه، كافياً للاعتراف بأن الليبيين، أو على الأقل الغالبية العظمى منهم، سيكون لهم نفس وضع الحقوق المحفوظة أو الممنوحة للإيطاليين، وبالتالي أن يكون قادراً على تحويل ليبيا إلى نوع من إيطاليا الثانية : ما يسمى بــالشاطئ الرابع. تم الكشف عن الملامح الرسمية لهذا القرار بشكل أكثر وضوحاً في أكتوبر 1938، عندما اقترح بالبو التوسع في منح الجنسية الكاملة لجميع المواطنين الإيطاليين الليبيين، وعلى الرغم من أن هذا الاقتراح كان يتماشى مع سياسة الحاكم نفسه، الملتزم بتنفيذ سياسة التجنيس وإدماج الليبيين والإيطاليين؛ إلا أنه تمّ رفضه بالإجماع من قبل المجلس الأعلى للفاشية31. وفي هذا الصدد يؤكد غالياتسو تشانو32، صهر موسوليني، الذي كان أيضاً وزيراً للخارجية في الحكومة الفاشية (1936-1943)، أنّ الاقتراح الذي قدّمه بالبو، فيما يتعلق بمنح الجنسية الإيطالية الكاملة للمواطنين الإيطاليين الليبيين، وجد معارضة قوية من القادة الفاشيين: "الليلة الماضية في المجلس كانت هناك مناقشة حيّة حول اقتراح بالبو منح الجنسية الكاملة للعرب. كان من السهل أن نرى فيها تناقضاً واضحاً مع السياسة العنصرية، أكثر الأصوليين [في هرم السلطة الفاشية]، مثل: فاريناتشي، وستاراتشي، وألفيري؛ لم يتردّدوا في اتخاذ موقف ضد هذا الاقتراح. لقد فعلت أنا الشيء نفسه، لذا تمّ تأجيل المشروع، وسيتم تقديمه في شكل أو صيغة مختلفة تماماً"33. لم يتنازل بالبو وأعاد تقديم المشروع، مقترحاً منح الجنسية الإيطالية على الأقل إلى قسم من السكان المحليين34. ومن الواضح أن شروط هذه المبادرة الجديدة كانت أكثر اعتدالاً، لذلك تمت الموافقة عليها، وتم تطبيقها لاحقاً على عدد قليل من الليبيين المسلمين، من خلال المرسوم الملكي التشريعي رقم 70 الصادر يوم 9 يناير 1939. كما صادقت المادة 1 من هذا القانون الجديد على الولادة الرسمية لما يسمى بــ (الشاطئ الرابع)، عندما تمّ إدراج المقاطعات الليبية الساحلية الأربعة في الإمبراطورية الفاشية: طرابلس ومصراتة وبنغازي ودرنة. وبذلك أصبحت هذه الأقاليم جزءاً لا يتجزأ من المملكة الإيطالية. في حين ظلّ إقليم فزان الواقع في الصحراء الليبية منطقة عسكرية، وتم الاعتراف بها تحت اسم (المنطقة العسكرية الجنوبية). فكانت المناطق الأربع المذكورة أعلاه يحكمها حكّام مفوَّضون من قبل الحاكم العام، المارشال ايتالو بالبو، وكان هذا الأخير يُشير في قراراته إلى وزارة أفريقيا الإيطالية، وليس إلى وزارة الداخلية الإيطالية35. كان النموذج المتبع في عملية التوحيد أو الضمّ هذه مشابهاً تماماً لما طبقه الفرنسيون في الجزائر عندما أصبحت ليبيا رسميّاً في 9 يناير 1939 جزءاً من شبه الجزيرة الإيطالية، فتم تقسيمها إلى أربع مناطق حضرية، تماماً كما حدث في الجزائر، التي هي الأخرى تم تقسيمها إلى ثلاثة أقسام: الجزائر، وقسنطينة، ووهران36.
17بالعودة إلى موضوع التجنيس والاندماج، فإن المرسوم، عند توفر شروط أساسية معينة لم يكن من السهل امتلاكها، كان يمنح (المواطنة الخاصة) للمواطنين الإيطاليين الليبيين المولودين في إحدى المقاطعات الأربع سالفة الذكر. كما تضمّنت نصوص هذا القانون تدابير صريحة تأخذ بعين الاعتبار الاختلافات الثقافية بين الإيطاليين والليبيين المسلمين، كما هو منصوص عليه في الفقه والقضاء الشرعي الإسلامي37.
18تجدر الإشارة إلى أن هذه المواطنة الخاصة كانت صالحة فقط في الدولة الإفريقية المتوسطية حيث كانت محدودة ومخصصة فقط لمجموعة صغيرة من الأشخاص التي تستجيب لشروط محددة والتي من الممكن أن تتلخص في كونها موالية جدًّا للنظام الفاشي. وكما لاحظ بالمييري هي "نوع من مكافأة الولاء التي منحها النظام [الفاشي] لليبيين، الذين كانوا مميزين بشكل خاص في السياق القدسي الطوباوي"38. هذه الجنسية لم تكن مخصصة لجميع سكان ليبيا الإيطالية، حيث تم استبعاد اليهود وآخرين، بسبب القوانين العنصرية المعادية للسامية لعام 1938. علاوة على ذلك، ومع هذه الجنسية الإيطالية الخاصة، وفقاً للمادة 8 من القانون المذكور، لا يمكن للمواطنين الليبيين الإيطاليين التقدم بطلب الحصول على الجنسية الوطنية المنصوص عليها في المادة 37 من المرسوم الملكي التشريعي الصادر في 3 ديسمبر 1934. في الحقيقة أدّى هذا الأمر إلى تقسيم المواطنة إلى ثلاث فئات: المواطنون الإيطاليون الذين يطلق عليهم (الوطنيون)، ويقتصر على الإيطاليين فقط، )المواطنون الليبيون الإيطاليون الخاصون) الممنوحة لنخبة من المواطنين الليبيين، فئة المواطنين العاديين المسماة بــ(المواطنون الليبيون الإيطاليون)، التي التقى فيها بقية المواطنين المحليين للبلاد.
19يمكننا أن نتفق مع وجهة نظر بعض المؤرخين مثل ديل بوكا وغوليا وغراسي، الذين يؤكدون أن إجراءات عام 1939 تبدو وكأنها مثلت خطوة إلى الوراء إلى حدّ ما في تجنيس الليبيين، على الأقل مقارنة بتدابير مرسوم سنة 1934. وفي هذا الأخير، على سبيل المثال، حتى لو كان من الممكن الحكم على الجنسية الليبية الإيطالية على أنها من الفئة الثانية، مع ذلك فإنها مُنحت لجميع الليبيين. في حين أن مرسوم 1939، اقتصر على منح لقب (المواطنة الخاصة) فقط في مقابل صفات ومستلزمات معينة، والتي كان يمتلكها بعض المواطنين من الوجهاء البارزين والأثرياء والتي لم تمتلكها شريحة كبيرة من السكان الأصليين. لقد أدّى هذا المرسوم الأخير ـ كما يلحظ غويري ـ إلى إنشاء فئة رفيعة المستوى بين السكان الأصليين، وربطها بالقضية والامتنان لولاية بالبو، ومع ذلك، وعلى الرغم من منح هذه النخبة اعترافاً خاصاً، الذي لم يتم منحه لكل مواطن ليبي، إلا أنها لم تُمنح أبداً المنزلة، أو بالأحرى مجموعة من الحقوق، المماثلة لتلك التي كان يتمتع بها المستوطنون الإيطاليون في ليبيا، وبهذه الطريقة: "انتهى الأمر بجعل الجميع غير سُعداء، أولهم بالبو"39.
20يمكن القول إن المواطنة الخاصة، المخصصة للنخبة الليبية المسلمة، وليس لمجموعة واسعة من المواطنين العاديين، مثّلت محرك عمل مؤسسي، يهدف إلى استيعاب ودمج فئة من الموظفين الليبيين سياسيّاً واجتماعياً، ولكن ليس جميع سكان ليبيا. وتمّ تحديد هذه الشخصيات الفردية خاصة من خلال الخدمات العسكرية، أو من خلال البحث عن أشخاص، أو بالأحرى مرؤوسين مناسبين لتغطية الوظائف الإدارية العامة والنقابية. ولنأخذ على سبيل المثال رؤساء البلديات والمسؤولين السياسيين الإداريين الصغار. هذه النقطة الأخيرة مذكورة أيضاً في المادة 7 الصادرة في نفس المرسوم لعام 1939 : "الحقوق المشار إليها في المادة 6، المتعلقة بالليبيين، الذين يتمتعون بجنسية خاصة، مع الحفاظ على الوضع الشخصي الإسلامي، والمسائل المتعلقة بالميراث [...] ؛ لا يمكن تعيينهم في المناصب أو الوظائف التي من خلالها تُمارس السلطة أو القيادة على المواطنين الإيطاليين".
21يبدو أن هذه العملية الاجتماعية السياسية كانت لا غنى عنها من أجل إضفاء شرعية للشاطئ الرابع. وبعبارة أخرى كانت نتيجة منح امتيازات خاصة، "مواطنة [جنسية] صغيرة"، أن النظام الفاشي بدأ في خلق سياق أو بيئة مناسبة لتغيير الوضع القانوني والإداري لليبيا40 من أجل متابعة عملية ضمّ المقاطعات الليبية الأربعة : طرابلس، ومصراتة، وبنغازي، ودرنة إلى "الوطن الأمّ". وبهذه الطريقة كان من الممكن تحقيق توسع الهيمنة الإيطالية على وسط البحر الأبيض المتوسط، وهو هدف -حتى قبل أن يكون ذا أهمية خاصة لولاية بالبو في ليبيا- كان على وجه التحديد يعكس تطلعات السيادة الإمبراطورية للفاشية في شخص موسوليني باتباع هذه الطريقة. ربما كان النظام الفاشي يستنسخ نموذج العمل الذي تمّت ملاحظته بالفعل في النمط الفرنسي لإدارة المستعمرة، كما هو الحال في الحالة الخاصة المتمثلة في الحيازة الأفريقية للجزائر.
22يؤكد المؤرخ كلاوديو سيغري في كتابه (بالبو)41 كيف أن الغرض من هذا الإجراء القانوني هو ولادة نخبة داعمة لإيطاليا الفاشية. حيث إن التزام النظام الفاشي بهذا الاتجاه كان مبنيّاً على بعض الركائز الأساسية، وفي المقام الأول : الوفاء بالوعد الذي قطعه موسوليني على نفسه في عام 1937، عندما كان قد ضمن في زيارة رسمية لليبيا مكافأة لمؤيدي الحملة الإثيوبية من المواطنين الليبيين. ثانياً: شعر بالبو أنه، من أجل تجنُّب ظهور هيجان وتوجهات استقلالية وقومية أو تلك المرتبطة بالقومية العربية، كان عليه مواصلة سياسة احتواء شخصيات مؤثرة على رقعة الشطرنج الليبية. فإذا تمّ تنفيذ الإصلاحات بالكامل، كانت إيطاليا الفاشية قد جسدت صورة القوة الاستعمارية الأوروبية المستنيرة. وأخيراً، كان الإجراء المعني يهدف إلى إنشاء الشاطئ الرابع، سالف الذكر، كواقع سياسي قانوني ملموس. وهذا يعني أن هذه المستعمرة، التي احتلها سمحت بعبور عشرين ألف مستوطن وصلوا من شبه الجزيرة الإيطالية ابتداءً من عام 1938، باتت تُعتبر امتداداً معترفاً به قانونيّاً لإيطاليا الفاشية.
23يُشاطر سميث ويؤيد الفكرة التي طرحها كلاوديو سيغري في أول نقطتين رئيسيتين، مُشدداً على أن عمل حكومة بالبو يمكن اعتباره أوّل مثال على تاريخ استعماريّ أوروبي جديد. ووفقاً لهذا المؤرخ اتبعت الأعمال والأفعال الاستعمارية للدوتشي موسوليني النموذج الإمبراطوري لروما القديمة، لكن أكثر عزماً واهتماماً بإخضاع الشعوب المهزومة واستيعابها بدلاً من السيطرة عليها وسحقها. ولكن من ناحية أخرى، لا يمكن لأحد ألا يدرك التضارب الصارخ لهذا الاعتبار. فهذه السياسة قامت على مبدأ التمييز العنصري، وإخضاع الليبيين لحكومة دكتاتورية مركزية. وإذا كان النظام الفاشي يهدف ـ من ناحية ـ إلى دمج المسيطرين والمسيطَر عليهم؛ مع إبقائهم في تمايزهم التأسيسي أو التكويني، فمن ناحية أخرى، كان يحاول دائماً القيام بذلك بطريقة استبدادية واجتياحية42.
الاستنتاجات
24على الرغم من أن حاكم ليبيا يبدو أنه أظهر زخماً واندفاعاً مفرطاً في تطبيق الإجراءات آنفة الذكر، إلا أن هذا المشروع لم يمثل الواقع برمته، كما أرادت منا الدعاية، أو حتى النية، لبالبو أن نصدق ذلك. في الواقع، كانت نتائج السياسة المذكورة متواضعة. لذلك يجب فهم هذه الإجراءات على أنها شكل من أشكال التمييز الدقيق والخفي. حيث أكّد محور هذا المشروع مبدأ التمييز العنصري، الذي أثّر على كل من العرب الليبيين واليهود؛ على حدّ سواء. وكما يعتقد روشاه، فإن الحاكم الإيطالي وضع نفسه مع هذه الأعمال في استمرارية تامّة مع السياسة العرقية العنصرية للنظام الفاشي. من جانبها كانت حكومة بالبو ثابتة في هدفها المتمثل في تطوير تيار الأقلية من الشعب من السكان المحليين كذوي النفوذ والسطوة والطبقة الموسرة، وكذلك مكافأة النخبة منهم دون مساواتهم - ببساطة - بمن يسيطرون على المستعمرة. وهكذا اقتربت السلطات الفاشية من هؤلاء السكان، في شخصيات أبرز ممثليهم الذين فتنوا باتباع الغرض ذاته: التعاون. لكن التفاوت بين الأطراف المشاركة في هذه العملية ظلّ واضحاً وصارخاً، على الأقلّ بالنظر للقوانين العنصرية. وتأكّد بقوة وبما لا يدع مجالًا للشكّ هنا تفوق الحكام على المحكومين43. في الواقع أطّرت أو وضعت هذه القوانين مشروع التجنيس الذي اقترحه وحاول تطبيقه الحاكم بالبو في معارضة صريحة لقوانين نورمبرغ العرقية الصادرة في عام 1935، بدعم من المجلس الأعلى الفاشي، وذلك امتثالاً للسياسة الفاشية العنصرية الجديدة. ولقد تمّ منع وحظر، بل ومعاقبة اختلاط الدم الإيطالي بدماء المواطنين الآخرين، الذين يعتبرون أدنى من مستوى الحضارة44. وهكذا تمّ تسليط الضوء بشكل أكبر على التباين بين المواطنين الإيطاليين الأصليين المنتميين للبلد الأمّ، والمواطنين الليبيين الإيطاليين. دليلٌ آخر على هذه الحقيقة، حادثة أكتوبر 1939، عندما أصدرت محكمة طرابلس حكماً على شابين ليبيين مسلمين اتُهما بالتحرش بامرأة إيطالية، ولم يكونا حاضرين في المحاكمة التي عقدت من أجل استجوابهما، وحُكم عليهما بالسجن ثماني سنوات بسبب أعمال "الشهوة العنيفة، وخدش الحياء، والإساءة إلى هيبة العرق الآري.45"
25في الختام يمكن أن نرى كيف كانت الرؤية السياسية للحاكم الفاشي ايتالو بالبو مستقلة إلى حد ما رغم أنها كانت خاضعة تماماً، أو بالأحرى مقتصرة على الحواجز، التي تفرضها الفاشية وزعيمها بلا منازع. فقد امتثلت أو استجابت لقوانين نورمبرغ المذكورة أعلاه، ولكن كان عليها تطبيق القواعد والمراسيم التي سارت في اتجاه التجنيس السلمي، وغير القمعي بين الليبيين والإيطاليين. وكانت "نوايا" بالبوـ حسب ادعاءات الحاكم نفسه ـ تهدف إلى الاعتراف الكامل بالحقوق المدنية للمواطنين الليبيين، لكن كان عليها أن تصطدم بالصلابة، التي أظهرتها الفاشية تجاه المستوطنين والشعب المقهور الخاضع تحت نيرها.
Bibliographie
قائمة المختصرات
(ACS) أرشيف الدولة المركزي، روما
(MAI) وزارة أفريقيا الإيطالية
(SPD) سكرتارية الدوتشي (موسوليني) الخاصة
أرشيف المركز الوطني للمحفوظات والدراسات التاريخية، طرابلس المصادر
(AMWMDT) الأرشيفية
Archivio centrale dello Stato (ACS), SPD, b. 32, fasc. 2, R.D.L, n° 70, « Aggregazione delle quattro provincie libiche al territorio del Regno d’Italia e concessione ai libici musulmani di una cittadinanza italiana speciale con statuto personale successorio musulmano », 09/01/1939-XVII.
ACS, SPD, b. 32, fasc. 5, « I provvedimenti razziali: dichiarazione sulla razza », 1938.
ACS, SPD, b. 32, fasc. b/c, « Disegno di legge: nuovo schema », 30/11/1938-XVII.
Aršīf al-Markaz al-Watanī li-l-Mahfuzāt wa-l-Dirāsāt al-Tārīkhiyyah Tarābulus (AMWMDT), fasc. 6, R.D.L., n° 2012, « Ordinamento organico per la Libia », art. 33, 37, 39, 40, 03/12/1934-XII.
AMWMDT, fasc. 4/b. 45, D.G.L., n° 33751, « Il Governo della Libia », « Orientamenti e istruzioni per alcune tradizioni degli arabi libici », 24/09/1935.
AMWMDT, Ministero delle colonie, R.D., n° 931, « Bullettino ufficiale, lo statuto della Tripolitania », 01/06/1919 ; R.D., n° 2401, « Lo statuto della Cirenaica », 31/10/1919-VII, 292-360.
المجلات
ليبيا المصورة العدد 1، أكتوبر 1939.
مراجع باللغة العربية أو المترجمة إليها
بلدية طرابلس في مائة عام، 1870 - 1970، دار الكشاف، طرابلس، 1976. رقم أعمال إيطاليا في سبيل مسلمي أفريقيا الإيطالية، بدون مؤلف، بدون ناشر، طرابلس، 1940.
السوري (صلاح الدين)، ليبيا والغزو الإيطالي الثقافي، بحوث ودراسات في التاريخ الليبي، مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية الجزء الثاني، طرابلس، ط2، 1998.
مور (مارتن)، الشاطئ الرابع. الإستيطان الزراعي الإيطالي الشامل في ليبيا، ترجمة عبد القادر المحيشي، مراجعة عبد المولى صالح الحرير، مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، طرابلس، 1989.
المفتي (محمد)، الأيام الطرابلسية، مجلس الثقافة العام، طرابلس، 2008.
المراجع الأجنبية
Ausiello Alessandro, 1939, La politica italiana in Libia, Rome, Tipografia Don Luigi Guanella.
Balbo Italo, 1938, La politica sociale fascista verso gli arabi della Libia, actes du colloque « Volta », 4-11 octobre, Rome, Éditions Europa.
Bassi Gabriele, 2018, Sudditi di Libia, Milan-Udine, Mimesis.
Bessis Juliette, 1991, La Libia contemporanea, Soveria Mannelli, Rubbettino Editore.
Bottai Giuseppe, 1949, Vent'anni e un giorno, Milan, Garzanti.
Ciano Galeazzo, 1980, Diario 1937-1943, a cura di Renzo De Felice, Milan, Rizzoli.
Del Boca Angelo, 1991, Gli italiani in Libia dal fascismo a Gheddafi, Rome-Bari, Laterza.
Goglia Luigi, 1988, « Note sul razzismo fascista », Storia Contemporanea, XIX, n° 6, 1223-1266.
Goglia Luigi, Grassi Fabio, 1981, Il colonialismo italiano da Adua all’Impero, Rome-Bari, Laterza.
Guerri Giordano B., 1984, Italo Balbo, Milan, Vallardi.
Losano Mario G., 1970, Libia 1970. Materiali sui rapporti fra ideologia ed economia nel terzo mondo, Turin, Cooperativa libraria universitaria torinese.
Mondaini Gennaro, 1941, La legislazione coloniale italiana nel suo sviluppo storico e nel suo stato attuale, 1881-1940, Milan, Istituto per gli studi di politica internazionale (ISPI).
Palmieri Tommaso, 2011, « La cittadinanza italiana libica e la politica fascista di sudditanza in epoca coloniale », Mediterraneaonline, août, [en ligne : https://www.mediterraneaonline.eu/la-cittadinanza-italiana-libica-e-la-politica-fascista-di-sudditanza-in-epoca-coloniale/].
Renucci Florence, 2005, « La strumentalizzazione del concetto di cittadinanza libica negli anni trenta », Quaderni fiorentini per la storia del pensiero giuridico moderno, n° 33-34, 319-342, mai, [en ligne : https://shs.hal.science/halshs-00463636v2/document].
Rochat Giorgio, 1986, Italo Balbo, Turin, UTET.
Segrè Claudio G., 1988, Italo Balbo : una vita fascista, Bologne, Il Mulino.
Segrè Claudio G., 1978, L’Italia in Libia. Dall’età giolittiana a Gheddafi, Milan, Feltrinelli.
Mack Smith Denis, 1976, Le guerre del Duce, Bari, Laterza.
Steer George L., 1939, A Date in the Desert, Londres, Hodder and Stoughton.
Younis Mustafa, 2019, « I progetti di costruzione e l’infrastruttura extra-urbana nella Libia balbiana », Eunomia. Rivista di Storia e Politica Internazionali, VIII, n. s., n° 1l, 57-61.
Younis Mustafa, 2021, « Balbo amico degli arabi. La politica di assimilazione e naturalizzazione degli arabi libici », in A. Baravelli (ed.), Il fascismo in persona. Italo Balbo, la storia e il mito, Milan, Mimesis.
Notes de bas de page
2 Italo Balbo.
3 Graziani.
4 Cf. Segrè Claudio G., 2000, Italo Balbo. Una vita fascista, Bologne, Il Mulino, 390 ; 1974, L’Italia in Libia dall’età Giolittiana a Gheddafi, Milan, Feltrinelli, 106.
5 مارتن مور، الشاطئ الرابع، الإستيطان الزراعي الإيطالي الشامل في ليبيا، ترجمة عبد القادر المحيشي، مراجعة عبد المولى صالح الحرير، مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، طرابلس، 1989، ص. 122.
6 Steer George L., 1939, A Date in the Desert, Londres, Hodder and Stoughton, 165.
7 Balbo Italo, 1938, La politica sociale fascista verso gli arabi delle Libia, acte du colloque « Volta », 4-11 octobre 1938, Rome, Éditions Europa, 19.
8 Cf. Aršīf al-Markaz al-Watanī li-l-Mahfuzāt wa-l-Dirāsāt al-Tārīkhiyyah Tarābulus (AMWMDT), fasc. 4/b. 45, D.G.L, n° 33751, « Il Governo della Libia », « Orientamenti e istruzioni per alcune tradizioni degli arabi libici », 24/09/1935 ; Balbo Italo, op. cit., 19-21.
انظر بلدية طرابلس في مائة عام، 1870-1970، دار الكشاف، طرابلس، 1976، ص. 340 - 342.
9 Balbo Italo, op. cit., 18-19.
10 Cf. AMWMDT, fasc. 4/b. 45, D.G.L, n° 33751, « Il Governo della Libia », « Orientamenti e istruzioni per alcune tradizioni degli arabi libici », 24/09/1935 ; Balbo Italo, op. cit., 19-21.
انظر بلدية طرابلس في مائة عام، المرجع السابق، ص. 340-342.
11 Cf. AMWMDT, fasc. 4/b. 45, D.G.L, n° 33751, « Il Governo della Libia », « Orientamenti e istruzioni per alcune tradizioni degli arabi libici », 24/09/1935.
انظر بلدية طرابلس في مائة عام، المرجع السابق، ص. 341 ؛ انظر أعمال إيطاليا في سبيل مسلمي أفريقيا الإيطالية، بدون مؤلف، بدون ناشر، طرابلس، 1940، ص. 64-65.
12 Fachirismo.
13 Del Boca Angelo, 1991, Gli italiani in Libia. Dal fascismo a Gheddafi, Rome-Bari, Laterza, 240.
14 Cf. AMWMDT, fasc. 4/b. 45, D.G.L, n° 33751, « Il Governo della Libia », « Orientamenti e istruzioni per alcune tradizioni degli arabi libici », 24/09/1935.
وانظر أعمال إيطاليا في سبيل مسلمي أفريقيا الإيطالية، المرجع السابق، ص. 65.
15 Balbo Italo, op. cit., 19.
16 Ibid.
17 السوري (صلاح الدين) ، ليبيا والغزو الإيطالي الثقافي، بحوث ودراسات في التاريخ الليبي، مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية الجزء الثاني، طرابلس، ط2، 1998، ص. 460-461.
18 مارتن مور، المرجع السابق، ص. 126.
19 Segrè Claudio G., 2000, op. cit., 401-402.
20 Bassi Gabriele, 2018, Sudditi di Libia, Milan, Mimesis, 211-212.
21 Balbo Italio, op. cit., 16.
22 Ibid.
23 Younis Mustafa, 2019, « I progetti di costruzione e l’infrastruttura extra-urbana nella Libia balbiana », Eunomia. Rivista di Storia e Politica Internazionali, n° 1l, 57-61.
24 Cf. Del Boca Angelo, op. cit., 268.
25 Rochat Giorgio, 1986, Italo Barbo, Turin, UTET, 257-261.
26 Younis Mustafa R., 2021, « Balbo amico degli arabi. La politica di assimilazione e naturalizzazione degli arabi libici », in A. Baravelli (ed.), Il fascismo in persona. Italo Balbo, la storia e il mito, Milan, Mimesis.
27 Balbo Italo, op. cit., 16.
28 مقابلة مع السيد مختار الأسود، أجراها الباحث في طرابلس ـ ليبيا، يوم 2 فبراير 2011. تقييم وصفي مماثل حول هذا الموضوع تم ذكره أيضاً في محمد المفتي، الأيام الطرابلسية، مجلس الثقافة العام، طرابلس، 2008، ص. 202-204؛ بلدية طرابلس في مائة عام، المرجع السابق، ص. 215. و في ص. Segrè Claudio G., 2000, op. cit., 401 :
29 لمزيد من المعلومات حول هذا الموضوع انظر:
AMWMDT, Ministero delle colonie, 1919, R.D. n° 931, « Bullettino ufficiale : lo statuto della Tripolitania lo statuto della Cirenaica », 01/06/1919 ; R.D. n° 2401, 31/10/1919, 292-360 ; Renucci Florence, 2005, « Strumentalizzazione del concetto di cittadinanza libica negli anni trenta », Quaderni fiorentini per la storia del pensiero giuridico moderno, n° 33-34, 319-342, [en ligne : https://halshs.archives-ouvertes.fr/halshs-00463636v2].
30 Cf. AMWMDT, fasc. 6, R.D.L., n° 2012, « Ordinamento organico per la Libia », art. 33, 37, 39, 40, 03/12/1934-XII.
31 للمزيد من المعلومات حول هذا الموضوع انظر:
Goglia Luigi, 1988, « Note sul razzismo fascista », Storia Contemporanea, vol. 19, n° 6, 1223-1266 ; Bottai Giuseppe, 1949, Vent'anni e un giorno, Milan, Garzanti, 121,120 ; Losano Mario G., Libia 1970. Materiali sui rapporti fra ideologia ed economia nel terzo mondo, Turin, Cooperativa libraria universitaria torinese, 64.
32 Galeazzo Ciano.
33 Ciano Galeazzo, 1980, Diario 1937-1943, a cura di Renzo De Felice, Milan, Rizzoli, 201-202.
34 Archivio Centrale dello Stato (ACS), Segreteria particolare del duce (SPD), b. 32, fasc. b/c, « Disegno di legge: nuovo schema », 30/11/1938.
35 ACS, SPD, 1939, b. 32, fasc. 2, R.D.L, n° 70, « Aggregazione delle quattro provincie libiche al territorio del Regno d’Italia e concessione ai libici musulmani di una cittadinanza italiana speciale con statuto personale successorio musulmano », 09/01/1939 ; Cf. Mondaini Gennaro, 1941, La legislazione coloniale italiana nel suo sviluppo storico e nel suo stato attuale, 1881-1940, Milan, ISPI, 48.
36 Bessis Juliette, 1991, La Libia contemporanea, Soveria Mannelli, Rubbettino Editore, 42.
37 للمزيد من التوضيح حول المتطلبات والشروط الأساسية للحصول على مايسمى بالجنسية الخاصة انظر:
ACS, SPD, b. 32, fasc. 2, R.D.L, n° 70, « Aggregazione delle quattro provincie libiche al territorio del Regno d’Italia e concessione ai libici musulmani di una cittadinanza italiana speciale con statuto personale successorio musulmano; Si vedano anche », 09/01/1939 ; Goglia Luigi, Grassi Fabio, 1981, Il colonialismo italiano da Adua all’Impero, Rome-Bari, Laterza, 215-217.
وانظر أيضاً مجلة ليبيا المصورة، العدد 1، أكتوبر 1939، ص. 4-5. انظر
38 Palmieri Tommaso, 2011, « La cittadinanza italiana libica e la politica fascista di sudditanza in epoca coloniale », Mediterraneaonline.eu, août, [en ligne : https://www.mediterraneaonline.eu/la-cittadinanza-italiana-libica-e-la-politica-fascista-di-sudditanza-in-epoca-coloniale/].
39 Guerri Giordano B., 1984, Italo Balbo, Milan, Vallardi, 338.
40 Segrè Claudio G., 2000, op. cit., 399 ; Ausiello Alessandro, 1939, La politica italiana in Libia, Rome, Tipografia Don Luigi Guanella Luigi Guanella, 277- 282.
41 Segrè Claudio G., 2000, op. cit., 397-399.
42 Mack Smith Denis, 1976, Le guerre del Duce, Bari, Laterza, 156.
43 Rochat Giorgio, op. cit., 261-263.
44 ACS, SPD, 1938, b. 32, fasc. 5, « I provvedimenti razziali: dichiarazione sulla razza ».
45 Rochat Giorgio, op. cit., 264.
يذكر المؤرخ غويري في كتابه (بالبو) (ص. 338) أيضا بأن حكماً بالسجن 8 سنوات صدر بحق هؤلاء الشابين. من ناحية أخرى يُفيد سيغري في كتابه (بالبو) (ص. 400) بأن الأحكام بالسجن الصادرة بحق الشابين بلغت 8 أشهر فقط.
Auteur
Historien, Université de Tripoli
Le texte seul est utilisable sous licence Licence OpenEdition Books. Les autres éléments (illustrations, fichiers annexes importés) sont « Tous droits réservés », sauf mention contraire.
La formation des élites marocaines et tunisiennes
Des nationalistes aux islamistes 1920-2000
Pierre Vermeren
2022