Freie Willkür ،Willkür (ألمانيّة)
حكم، حكم حرّ، حكم مستقل
p. 527-543
Texte intégral
باللاتينيّة: liberum arbitrium بالفرنسيّة: libre arbitre |
1إنّ مسألة الـ"Willkür"، أي الحَكَم، كما تُطرح في منظار كانط، تُعطي مثلًا رائعًا عمّا يستطيع فِقْهُ اللغة المطبّق على الفلسفة أن يُقدّمه إلى إدراك المفهوم ضمن النظريّة التي يدور في فلكها. فهناك اعتباراتٌ صَرْفيّةٌ ومدلوليّةٌ قويّة جدًّا في اللغة الألمانيّة، لربط وَضْع الحَكَم (die Willkür) ارتباطًا وثيقًا بوضع الإرادة (der Wille). وهناك أيضًا اعتباراتٌ نظريّةٌ كي يتعزّز هذا الارتباط حينما يوصف الحَكَم بـ"الحرّ"، هذا إذا سلّمنا بأنّ "الحرّيّة" تجد تعريفها الأكثر واقعيًّا، عند كانط، فيما يُسمّى بِـ"استقلاليّة" الإرادة. بيد أنّ هذا الارتباط يثير في الأساس صعوبةً حينما يرتكز المفسّرون الفرنسيّون على ترجمة "Willkür" بـ"libre-arbitre" (حرفيًّا "الحَكَم الحر")، فلا يستطيعون الإفلات من فخّ ترجمة "freie Willkür" أيضًا بـ"libre-arbitre" (الحكم الحرّ)، التي تبدو معقولة في الظاهر، ممّا يُعرِّض تماسك نظرّيّة كانط في الحرّيّة للغموض.
١) رهان المصطلحات، رهانٌ فلسفيّ
أ. مشكلة الترجمة
2كَشَفَ جان بارني النقاب عن مشكلة الترجمة منذ عام ١٨٥٣، بعد أن اصطدم بضرورة ترجمة "Willkür" في مقدّمة "أسُس ميتافيزيقا الأخلاق"، وقد لا يوجد مَثَلٌ أفضل على الارتباكات التي يُمكن أن تُحدثه الاختيارات المصطلحيّة التي تسعى جاهدةً إلى تسوية المسائل لترتيب المفهوم. وقد كتب جان بارني في حاشية:
إنّ الكلمة الفرنسيّة "arbitre" (حَكَم) التي أُترجم بها الكلمة الألمانيّة "Willkür"، لا تُستخدم عادةً إلّا مع النعت: "libre-arbitre"، "franc-arbitre" (حكم حرّ). ولكن لا يُمكنني أن أستخدم هنا تعبير "libre-arbitre"، التي تأتي فيما بعد لترجمة "freie Willkür"، وبالتالي أرى لزومًا عليّ أن أستخدم كلمة "arbitre" (حَكَم) وحدها. وإنّ أيّ تعبيرٍ آخر، عدا عن ذلك، فإمّا أن يُناسب أقلّ، أو أن يفتقر كلّيًّا إلى المعنى، إذ يجب عليّ أن أستبقي الكلمات المشابهة كلّها، كي أُنصف هنا التعابير الأخرى المميّزة والمعرّفة من قبل كانط. ومن ثمّ، عندما سأتمكّن من هذا الأمر من دون أيّ عائق، سأترجم "Willkür" بـ"volonté" (الإرادة)1.
3فهل سيصمد تماسك النظريّة الكانطيّة للحرّيّة إزاء الغموض والبلبلة الحتميّة التي لا تني تُسبّب استحالة التمييز في المصطلحات، بين الحرّيّة الخاصة بالـ"Willkür"، والحرّيّة التي تمّ التشديد عليها في العبارة "freie Willkür"؟ أليست هذه طريقة لإنتاج البلبلة والحفاظ عليها، في النسخة الفرنسيّة للغة كانط، بين "الحَكَم الحرّ" بمعنى الحَكَم الذي يحكم على طريقته (معنى ضمنيّ في اللغة اليوميّة)، وهذا الحَكَم نفسه المُعتَبر حرًّا (بوضوح، في لغةٍ هي من الآن فصاعدًا فلسفيّة)؟ ولكن أيضًا، للسبب نفسه، إذا اكتفينا، بكلّ صرامة، بِـ"الحَكَم" لترجمة "Willkür"، ولكن مع المحافظة على "الحَكَم الحرّ" لإعادة تحديد معنى الـ"freie Willkür"، هل سنتخلّص من المشكلة2؟ ومهما يكن، ألا ننقل بذلك فَهْمَ مصطلحات كانط إلى سلسلة الصراعات الطويلة التي نشبت بين بيلاجيوس وأوغسطينوس، وبين إراسموس ولوثر، وبين مولينا وجانسينيوس، ومن ثمّ إعادة إدراجِها في حقل الفلسفة الذي يُردِّد صدى هذه الصراعات من خلال الديكارتيّة، بما في ذلك تلك التي راجعها وصحّحها سبينوزا ومالبرانش ولايبنز، تحت طائلة إقحامها في نقاشٍ عقائديّ خارجيّ، ممّا يطمس نوايا كانط (وإبداعيّته) التي يجب أن نفهمها بالأحرى من الداخل؟
4كيف نُترجم "freie Willkür"، أي كيف نُسمّي الحَكَم الذي يُوصَف بـ"frei" (الحرّ)؟ لا شكّ في أنّ مسألة الترجمة التي نثيرها هنا والتي نصادفها عند كانط تقود من جديدٍ إلى مشكلةٍ نظريّةٍ فلسفيّةٍ، ذات تقليدٍ عريقٍ، وحاسم تمامًا في تاريخ علاقات الفلسفة باللاهوت كما بتاريخ العقلانيّة: كيف نفهم حرّيّة الحَكَم فيما يُسمّى بالحكم الحر، المنسوب إلى الإرادة، وأيضًا إلى الفاهمة والحُكْم والعقل والفعل والله؟ ولكن، في هذه الحالة، إنّ تَطلُّب التوضيح الذي ينطوي عليه يرتبط أوّلًا بِهَمّ أن نعيد صياغة تَماسُك النظريّة الكانطيّة، في النسخة الفرنسيّة [أو العربيّة]، في خصوص مسألةٍ رئيسيّةٍ في مشروع كانط الفلسفي. كلّ شيءٍ سيتّضح، على ما يبدو لنا، إذا استنجدنا بِـ"الحَكَم المستقل" للتعبير عن الـ"freie Willkür"، لِنَنْسب كلمة "Willkür" (الحَكَم) إلى "Wille" (الإرادة) في عنصر الحرّيّة3. إنّ مسألة الترجمة، التي من المُمكن في البداية ألّا تكون سوى إرباك ظرفيّ، تمتزج بِهَمّ المفهوم، ممّا يجعل الرهان كبيرًا جدًّا: يتجاوز الرهان مسألة صحّة الميتافيزيقا الكانطيّة نظريًّا، فيخصّ أيضًا قيمتها (أي ما ينعشها ويحييها) حين تتوق إلى تسويغ نفسها، في ميدانَين، يتطلّب فيهما الحَكَم أن يُوصف بالحرّ، ميدان الأخلاق (والقانون والفضيلة) وميدان العلاقة بالشرّ. وفي كلتا الحالتين: من وجهة نظر "العقل العمليّ".
ب. علم المصطلحات، وعلم الاشتقاق
أوّلًا- المصطلح الفرنسي: "arbitre" و"arbitraire"
5سنتوقّف قليلًا عند بعض الإرشادات المهّمة التي يُمكننا أن نَستخرجها من قواميس اللغة، في ما يتعلّق، بالـ"arbitre" الفرنسيّ (الحَكَم)، وبخاصّة بالـ"Willkür" الألمانيّ. فمن قاموس "ليتريه" (Littré) الفرنسيّ إلى القاموس التاريخيّ للغة الفرنسيّة "روبير" (Robert)، يكون للفظ "arbitre" معنيان متميّزان في الجوهر: واحد يفرض نفسه كمعنى "كلاسيكيّ"، منذ منتصف القرن السابع عشر، ويعني "الذي يَحكم في النزاع"، وبالتالي سلطة تنفيذ الحكم؛ والآخر، فلسفيّ بصورةٍ خاصّة (بالنسبة إلى "ليتريه") وحتّى ميتافيزيقيّ، يُعبِّر منذ القرن الثالث عشر عن "القدرة التي تَتَحلّى بها الإرادة في الاختيار بين عدّة أفرقاء من دون أيّ حوافز خارجيّة"، أي "القدرة على تحديد الذات من دون أيّ سببٍ إلّا من الإرادة نفسها" (بحسب قاموس "ليتريه")، أو أيضًا "القدرة على التصميم من خلال الإرادة وحدها، من دون أيّ إكراه" (بحسب قاموس "روبير"). ومع ذلك، سيهتمّ الفيلسوف بالتَّسييس المباشر للمعنى الكلاسيكيّ: الحَكَم الذي يُفهم به على أنّه السيّد المطلق، خصوصًا عندما تَردُّنا الصفة الاسميّة "arbitraire" (تحكُّميّ، اعتباطيّ)، إلى مزاج الأمير أكثر منه إلى إرادته الطيّبة، موجّهًا الحَكَم نحو النزوة الخارجة من حُكم العقل ونحو سيطرة الحواس، وفي الوقت عينه نحو الاستبداد. أمّا في ما يتعلّق بالمعنى الفلسفيّ، بشكلٍ خاصّ، فينبغي لنا أوّلًا أن نُشير إلى أنّه يجب على الـ"arbitre"، لكي يَتَشكَّل المعنى كما هو، أن يكون "franc" أو "libre" (حرًّا)؛ ومن ثمّ أن تُكفّ يده عن السلطة، وينقلها إلى قوّةٍ أخرى، أي الإرادة، وهي نفسها المحدّدة كقدرة الاختيار المستقلّة عن كلّ شيءٍ خارجيّ وعن كلّ حتميّة. من هنا، من دون شكّ، الجانب الميتافيزيقيّ (الذي أثاره "ليتريه") للحَكَم الاعتباطيّ الذي لا يمكن أن نصفه بـ"حرّ" لأنّ الحرّيّة الوحيدة الممكن تصوّرها هي حريّة الإرادة [في الاختيار]. وهي بالفعل فلسفة الإرادة (التي سنقول عنها بكلّ سرورٍ إنّها مُعدةٌ سلفًا للحرّيّة الحقيقيّة)، وهي أيضًا كلاسيكيّة للغاية، وتحلّ مكان فكرة الحَكَم في الدعوة إلى الحكم الحرّ. لنطرح سؤالًا، وهو ما سيسمح لنا الاعتبار المتنبّه لِـ"Willkür" بالإجابة عنه ربّما: ماذا لو فسخ كانط تمامًا الصلة مع هذه الكلاسيكيّة - التي بلغت أوْجها مع لايبنز في "ملاحظاته حول القسم العامّ من مبادئ ديكارت" (في المقالة ٣٩): "يتساوى سؤالنا عمّا إذا كانت إرادتنا حرّة مع سؤالنا عمّا إذا ما كانت إرادتنا هي إرادة. في الواقع، حرّ وإراديّ يعنيان الشيء نفسه"؟
ثانيًا- المصطلح الألمانيّ "Willkür"
6تشير القواميس الشائعة الاستخدام إلى تعزيز معنى التحكّم أو النزوة (يظهر ذلك مثلًا في عبارة "nach Willkür handeln" أي أن يتصرّف كما يحلو له)، ويفرض المصطلح نفسه في الصفة "willkürlich" ("اعتباطيّ" إلى "استبداديّ")، وفي مصطلحٍ أكثر وضوحًا "Willkürherrschaft" الذي يعني الحُكْم الغاشم والاستبداديّ، أي تحكُّم المُتعة. وفي تعبير أحْدَثَ بالنسبة إلى موضوعنا (وهذا مهمّ): ما يُعلّمه الاشتقاق "Willkür" من قاموس الأخوين غريم (Grimm) إلى دودين (Duden) هو أنّ إلحاق كلمة "Kür" بكلمة "Wille" يُشكّل إطنابًا بليغًا. كما أنّ شكل الاختيار الحرّ الذي يُختتم في قرار الإرادة (ويأخذ هنا منحًى مُهينًا منذ منتصف القرن الثامن عشر: غير المُندفع، أي استبداديّ) بات سائدًا، لأنّ كلمة "Kür" تردّنا إلى فعل "kiesen" (في الماضي "kor"، واسم المفعول منه "gekoren")، الذي يحمل معنى فعل "wählen" نفسه، أي اختار (وهو معنى قد تّم حفظه في التمارين الحرّة في الرياضة البدنيّة، حيث تُستخدم فعلًا كلمة "Kür"، كما في كلمة "Kurfürst" والتي تعني الأمير الناخب). إنّ وحدة المعنى تكتمل هنا، عندما، مُسْتَندين دومًا إلى الاشتقاق، نأخذ علمًا بِفعل "wollen"، أراد، الذي يحمل الجذر نفسه لفعل "wählen"، وكذلك أيضًا كلمة "wohl"، صالح (راجع مدخل: WERT)، التي تتركّب معه تعابير كثيرة، في اللغة الألمانيّة، للتعبير عن الطيّب (le bon) والخير (le bien)، المنجز أو المجرّب في الرضى أو المُتعة المرتبطة به. أليست هذه القدرة على الاختيار المرتبطة بالاختبار الذي يثلج الصدر للأشكال الحسيّة للمتعة إلى حدٍّ ما، سوى السعادة التي يُعبّر عنها تعريف الـ"Willkür" عند كانط في مقدّمة "ميتافيزيقا الأخلاق"؟
إنّ مَلَكة الرغبة وفقًا للمفاهيم، بقدر ما يقطن الدافع الذي يُحدّدها للقيام بالفعل في الملكة ذاتها وليس في موضوعها، يُقال عنها ملكة التصرّف كما يحلو لصاحبها. وبقدر ما تكون مرتبطةً بوعي الملكة على العمل من أجل إنتاج الموضوع، فنسمّيها حَكَمًا.
7إنّ خاصية الـ"Willkür" هي أن تجعلنا نُقرّر ("على اعتبارنا أحرارًا في..." - زعمًا؟ - "أسياد على...") وأن نفعل على "قَدْر ما نشاء"، وكما يحلو لنا، وكما "يُلائمنا"، أي على اعتبار أنّ دوافع الحَكَم مرتبطة برضى الحساسيّة. لنعُد إذًا إلى السؤال الذي انطلقنا منه: ماذا تضيف كلمة "frei" وتغيّر في هذه "المعادلة"؟ مما تفرّج "frei" الـ"Willkür" عندما تُحدَّد على أنّها "freie Willkür"؟ للوصول إلى ميتافيزيقا الـ"Willkür" من المناسب أن نمكُث أكثر في خصائص اللغة، وهذه المرّة في قواعد اللغة، لكي نتقصّى كلّ ما يختبئ في مصطلح "Will" (إرادة) الموجود في كلمة "Willkür".
ج. قواعد اللغة: حرّيّة وَزمانيّة
أوّلَا- "Ich will" (أريد)، الماضي الحاضر
8من الناحية النحويّة إذًا، "Ich will" حاضرُ فعل "wollen"، أي فعلٌ مُساعدٌ يأخذ صيغة الماضي في الحاضر، وهو ما يُسمّيه اللغويّون بـ"الماضي الحاضر". ولكن هناك بعض الملاحظات التي تفرض ذاتها.
9تحتوي اللغة الألمانيّة على مجموعةٍ لا بأس بها من الماضي الحاضر. فاللائحة، كما سنرى، هي ذات مغزى كبير. فهناك، بالإضافة إلى "ich will" من فعل "wollen" (أراد)، أفعالٌ مساعدةٌ أخرى:
– "Ich kann"، من فعل "können"، "أقدِرُ على" في المعنى السائد، "أن أكون قادرًا"، أي "المهارة/الحرفة" المرتبطة بِـ"Kunst"، الفنّ في كلّ حالاته.
– "Ich darf"، من "dürfen"، ويعني دومًا وأيضًا "أستطيع"، ولكن هذه المرّة بمعنى "يُسمح لي"، أن يُسمح لي في حدود "القانون" واتّساعه.
– "Ich mag"، من "mögen"، "أريد فعلًا"، وحتّى "أحبّ"، ولكن في معنى آخر للاستطاعة، مرتبطٌ هنا بالإمكان (möglich)، "أن يكون هناك إمكانيّة" (Möglichkeit).
– "Ich soll"، من "sollen" أي وجبَ بمعنى "يجب أن يكون"، ما يشتمل عليه بوجهٍ عامّ سجلّ الأمر (ما يجب أن يكون أو أن يحدث)، وبخاصّة الوجوب، وقبل كلّ شيءٍ ما ينجم عن الـ"Schuld" أي الدَين الذي يجب أن يُسدَّد (أو الخطأ الذي يجب أن يُصلّح).
– "Ich muß" من "müssen"، ويعني أيضًا "وجب"، ولكن بمعنى الإلزام المرتبط بسجل الضرورة، وبوجه عامّ الخلل، والنقص الذي يجب ملؤه، وبالتالي الحاجة.
– ونختم بـ"Ich weiß" أي أعرف بمعنى أعلَم، الذي يردّنا أيضًا، مثل الحرفة إلى "können"، قَدِرَ، استطاع، مرورًا بشكله الآخر "kennen"، عَرَف.
10وبعد، ينبغي لنا أن نتنبّه إلى المشترك في عائلة الماضي الحاضر: الشكل الماضي لهذه الحواضر، بدلًا من ماضٍ قد يكون قد فَقَدَ قيمته [الزمنيّة] في مرفوع الحاضر (indicatif). ألا توجد مواضٍ تُعطي معنى أكثر ممّا تتلفّظ به غمزًا، وينبغي بالتالي أن نوضّحها من أجل غاية مفيدة؟ ويأتي على بالنا نموذجٌ متعلّقٌ بالمسألة (نموذجٌ باراديغميّ، إذا وُجِد، فهو يخفي أساس المثاليّة الأفلاطونيّة كلّها) التي تقدّمها اللغة اليونانيّة عندما تجعل من الماضي (الثاني) من فعل οἶδα، "اُيدا"، "لقد انتهيت ممّا رأيت"، حاضرًا بمعنى "أعرف". في هذا النموذج، تذكر المواضي الحواضرُ الألمانيّةُ بدورها تاريخًا حافلًا بالماضي، مسيرة تجريبيّة تَشترطُ في الحاضر العلاقة بالمستقبل، وذلك، في شروط المُمكن والواقع والضروريّ التي قال عنها كانط من ناحية أخرى، إنّها تُعبّر عن العلاقة بين الذات والموضوع من دون أن تزيد المعرفة فيه4. وبتعبير آخر، تُكثّف المواضي الحواضر في ذاتها كلّ نظام الزمن، وهو التذكّر الضمنيّ لزمنيّة الذات الأساسيّة (للعمل، وحتّى عمل المعرفة نفسها)، المرتبط بتحديدات الماضي والمنفتح على توقّعات المستقبل (الارتيابات والوعود).
11وليس من المبالغة القول أخيرًا إنّ عائلة المواضي الحواضر تُشكّل العنصر الذي تتنفّس منه فلسفة كانط النقديّة وتُفكّر فيه. ما يُسمّى فيها بـ"مصلحة العقل" لا ينفكّ يرتبط بهذه الأفعال المساعدة... فهذه قد أَشْبَعت الخطاب الكانطيّ، كما يُمكننا أن نختبره في رسالة النصّ الأصليّ وروحه. لنستند، انطلاقًا من مثل، إلى الأسئلة الثلاثة الشهيرة التي فيها يُختصر همّ كانط الفلسفيّ: "ماذا أقدر أن أعرف؟" (?was kann ich wissen)، "ماذا يجب عليّ أن أفعل" (?was soll ich tun) و"ماذا أستطيع أن آمل؟" (?Was darf ich hoffen)5.
12ما القصّة التي سيُخبرها فِعْل "ich will" (أريد)، إذا طُلِب منه أن يُطوّر كلّ ما يحتويه شكل الماضي في حاضره الذي ينزع نحو المستقبل؟ ففي شكله الألمانيّ، يعني فِعْلُ "أريد": أخيرًا، لقد اخترت، بمعنى أنّي اخترت بعد أخذ عيانات ومقارنة أغراض التجربة المتعدّدة، واختبارها، والذوق الذي كونته خلالها، والمُتعة أو الانزعاج التي استخرجتها منها، والتي تستحقّ اليوم بالنسبة إليّ الرغبة من أجل تفعيلها من جديدٍ (أو التخلّي عنها). إنّ الحَكَم الكانطي، في حالته العاديّة، لا يُعرّف إلّا من خلال هذه القدرة، في إطار رغبةٍ فعّالة (Begehrungsvermögen)، واختيار أن نعمل من خلال التصوّر واستباق المُتعة المنتظرة (أو الانزعاج الذي نتخوّف منه)، أقلّه من خلال رضى فعليّ، تبعًا لاختبار الواقع، ولما "نقدر" أو ما "يجب" أن نُحقّقه فيه، ولكن في غموض هذه "القدرة" وهذا "الواجب".
ثانيًا- استمراريّة الماضي
13إذا بقينا أيضًا في فقه الـ"Willkür" اللغويّ، ماذا يستطيع تحديدها بـ"frei" أن يؤكّد عند كانط، سوى أنّ الإرادة التي تستمرّ في الدلالة عليها (الـ"wollen" الموجودة في "Will-kür"، وبالتالي القدرة على الاختيار "wählen" المكّررّة في "kür") هي مُحرّرة، من الآن فصاعدًا، من هذا الاختبار كلّه، ومن جميع الظروف التجربيّة، حيث أنّ محفّزات كثيرة متنوعّة مالت إلى هذا المسلك أو ذاك؟ إنّها تحرّرت إذًا من كلّ ما يؤثّر من الخارج في قابليّة استقبال الحساسية (Sinnlichkeit)، وأيضًا من فكرة الخارجيّة نفسها، ولكن أيضًا من المسار الذي تعاقبت فيه هذه الخارجيّة ضمن ذاتها في ذاتيّة الزمن، وبالتالي، لنختم، خصوصًا، من الزمن نفسه ومن عبوره. وفي آخر المطاف، كيف يستطيع الحَكَم أن يكون حرًّا إذا كان عليه أن يختار تحت وطأة الزمن الذي يَعْبُر؟ فإذا كان معنى أن يكون حرًّا هو أنّ "السيّد هو سيّد نفسه" (dominus compos sui)، فما هي قدرة الحَكَم إذا لم يوجد، في هذا الزمن الذي يمرّ، حاضرٌ آخر سوى الماضي الذي يَفرض عليه شكله مع كلّ مضمونه، وعندما نعرف أنّ ما "يتعلّق بالزمن الذي ولّى، لم يعد في متناول قدرة الفاعل"، وهذا ما ذكّر به كانط غالبًا، كما في "نقد العقل العمليّ"6.
14وهكذا، وراء ما يظهر من "حرّيّة الاختيار" المعزّزة للغاية، الذي تقترحه (freie Willkür) على ما يبدو، ينبغي لنا أن نَفْهم "حرّيّة" الحَكَم في صرامتها: كما على أقلّ تقدير، وحتّى الآن على الأكثر، على أنّها استقلالٌ إزاء الاختبار وشروطه المفروضة علينا. ومن ثّم، إنّ حرّيّة الحَكَم، في التعابير النقديّة الكانطيّة المحدّدة منذ مقدّمة "نقد العقل المحض"، ليست سوى عودة الحَكَم إلى النمط القبليّ "a priori"7.
15ولكن قبل أن نعود إلى التأثيرات العقائديّة لهذه الخاتمة الموقّتة، يجدر بنا أن نتوقّف مرّة أخيرة على ما يُمكن أن يؤثّر في عائلة الأفعال المساعدة، عندما الـ"freie Willkür" المحرّرة (بمعنى أنّها "frei" من الـ"wollen" [الإرادة] وبالتالي من الـ"wählen" [الاختيار]) تُحرِّر في الوقت نفسه حاضر الـ"wollen-wählen" من كلّ ما يُشار إليه ويستمرّ على شكل "ich will" (أريد): أي استمراريّة الماضي وسمة الإرث وثقل التاريخ التجريبيّ. لا شكّ في أنّه بِوِسْع المرء أن يفترض التأثيرات المتسلسلة لهذا التحرّر في البنية العامّة للماضي الحاضر، حيث تتوضّح أحوال الحرّيّة، ويُدوّي على الأقلّ التعليم الكانطيّ بطريقٍ يُشهد له: يقول كانط، مشرّعًا بذلك الإقرار بالحرّيّة وسيطرتها [على الحياة العملية]، إنّ ما يريده الإنسان، ينبغي عليه ما يريده، وبالتالي يستطيع أن يفعله8، رابطًا في تضامنٍ مباشرٍ هذه الأفعال المساعدة "wollen"، "sollen"، "können". ألا يُذكّرنا هذا التضامن بأنّ كلّ اختيار يحصل في الـ"Wollen" (الإرادة)، عندما يعني في الواقع "Wählen" (اختيارًا)، يندرج في لُحمة التواريخ كلّها التي تسجّلها الأفعال المساعدة المختلفة، إذ يعبّر كل واحدٍ منها، في حاضره، عن خلاصة الماضي؟ أفلا يتضمّن هذا التضامن إذًا، عندما تجد الـ"Wollen" (الإرادة) نفسها محرّرة من الاختيار المشروط بمجمل هذه التواريخ، أن يتحرّر الـ"Sollen" (الوجوب) من تواريخه مباشرةً؟ ليكُن. ولكن، أن يكون "الواجب" مُحرّرًا من ثِقل الدَيْن (تعني عبارة "ich soll" استَدَنْتُ)، ومن قيود سَداد الدَيْن، كإرث الخطأ (في شكل الخطيئة الأصليّة) والفداء؟ لدينا إذًا حَكَم مُحرّر من البند القانوني الذيّ يَرُدّ (ويَختزل) دافع الإرادة، ظانّين أنّه بإمكاننا أن نجعل منها أكثر استقلاليّةً حين تتخلّص من الدَيْن، إلى هاجس سداد الدين. أفلا يشتمل التضامن نفسه أيضًا على أن يتحرّر الـ"können" من الصبر الطويل الذي يحوّله إلى "Kunst" أو "kennen" (تعني عبارة "ich kann": لقد انتهيت من التعلّم، وأعرف أن أفعل)؟ ليكن. فهل تتحرّر القوّة من المهارة والفطنة حيث تكتمل الحرفة في التعامل مع الأشياء والناس؟ وعندنا حاليًّا حَكَمٌ مُحرَّرٌ من البند البراغماتيّ الذي يجعل من الذكاء التقنيّ العمليّ مُحدِّد الإرادة، والذي قد يجعلها أكثر استقلاليّةً كلّما كانت أكثر اطّلاعًا.
٢) الحَكَم الحُرّ والحَكَم المُستقل وحرّيّة الحَكَم
أ. ضرورة بفعل الحرّيّة
16إذا كان هناك من تماسكٍ في هذا النظام الحقيقيّ للتأثيرات المنتَجة، في الأصل، من خلال تحديد الحَكَم كحُرّ، فكيف لا يُمكننا فَهْم امتداد هذا التحرير المتسلسل، والمتناقض من دون أيّ شكّ، كسيطرة الضرورة المطلقة؟ هذا الانقطاع المعمَّم في الصلة يقودنا إلى التناقض كما إلى المطلق، أو بعبارةٍ أفضل، إلى البعد الكونيّ لغياب الصلة الذي، مع ذلك، يربط بطريقة آمرة. فينبغي لنا إذًا، لحلّ هذا التناقض والاضطلاع بهذا المطلق، أن نوضّح المعنى العميق وأصالة هذه الضرورة، المختلفة عن الضرورة السائدة في التجربة التي تجعل من الطبيعة "طبيعة" إنسانيّة مُحدّدة في ذاتها من خلال مَلَكاتها في المعرفة والرغبة وشعورها بالمتعة والألم. في مقاربةٍ أولى: تحرّر هذه الضرورة الأخرى نفسُها من النمط المؤثّر في كلَّ عملٍ لموضوع المعرفة في الزمن (في الاستمراريّة والتعاقب أو التزامن)، بطريقةٍ "ذاتيّةٍ توليفيّةٍ" (subjectivement synthétique)؛ إنّها ضرورةُ غيرِ المشروط. وعلاوةً على ذلك، ولكي نذهب على وجه التحديد إلى أصل الحرّيّة - كما سعت المثاليّة الألمانيّة إلى تصويرها على خطى كانط -، نقول: تحرّر هذه الضرورة من ضرورة الزمن نفسه، ومن محيط تصوّر عالم المواضيع الذي لا مفرّ منه، وأيضًا من أفق الأهداف. هذه الضرورة، التي تسهّل لنا الوصول إلى غير المشروط، تُدخلنا، وهي ترفعنا نحو العُلى، في لا-زَمن العالم فوق الحسّيّ، وفي "العقليّة" الترسنداليّة (التجاوزيّة) (دائرة شروط الإمكان)، حيث يواجه كانط في النهاية العلاقة المرعبة بالشرّ، التي تُعيد الحَكَم وحرّيّته إلى مسرح الممارسة الإنسانيّة، في الصعوبات التي نعرفها9.
ب. الحَكَم المستقل
17سؤالان، في سياق البحث، لا يُمكن إغفال طرحهما، تَرَكَتْهما هذه الاعتبارات من دون البَتّ فيهما: أوّلًا، إذا كان الحَكَم، كَحَكَمٍ "حرّ" بمعنى مستقلّ، يُحرِّر من خلال التأثير المُعَمَّم لِـ"قانون الحرّيّة"، ولأنّ الحَكَم نفسه مُحرّر، فما الذي يُحرّر الحَكَم نفسه؟ ومن ثمّ، كَـ"حَكَمٍ" حرّ، قد انعتق من ثِقل الواقع الذي يُحرّكه في الزمن العاديّ، ومَيله إلى جفاف التجريد بحيث يجد نفسه من جديد محرّرًا من عالم الظواهر، فلِمَ الحديث بَعْدُ عن الحَكَم (Willkür)؟ ما الذي يحمل الحَكَم على الاختيار بَعد؟ وإذا كان هناك ما يُضفي شرعيّة استخدام مصطلح "حَكَم"، ففي أيّ بديل؟
18لكي نضع "الحَكَم المستقل" في منظوره الصحيح، لنعُدْ، بدايةً، إلى برنامج الضرورة كما نُظّم وجُرّب في اختبار "الممارسة". كلّ شيء يبدأ، في قلب هذه الضرورة، بمقتضيات العقل أن يُنسَب فِعْلٌ ما إلى وكيله كما إلى فاعِله (Urheber)، وإلّا، أين يكمن الخطأ والجدارة؟ إنّ شَرْطَ إمكانيّة الأخلاق كما القانون يخفي مطلبًا آخر، أكثر عقلانيّة ممّا هو معقول: ما من فاعل لا يكون سببًا حرًّا (إذ من خلاله يحصل على الكرامة الإنسانيّة) ولا توجد مسؤوليّة من دون حرّيّة10. وهناك - كما يستطيع كلّ واحدٍ أن يرجع إلى ذلك - اختبار القانون الأخلاقيّ، اختبار قانونٍ مغايرٍ تمامًا لقوانين الطبيعة. نعرف أنّ كانط قد اعتبر هذا الاختبار "حقيقةً للعقل"، واعتبر هذه الحقيقة سبب معرفة (ratio cognoscendi) [وجود] الحرّيّة التي لها بالمقابل في هذه الحقيقة سبب وجودها (ratio essendi)11. ففي هذا "الفعل"، يتأكّد الواقع الحقيقيّ للحريّة، إزاء الفرضيّة التنظيريّة التي لا تؤمّن لها، في "نقد العقل المحض"، سوى وضْعِ "إمكانيّة" بسيطة، وهذا ما يسمح للعقل العمليّ بالمطالبة بضرورة الحرّيّة، غير المعروفة وغير المفهومة، كواحدة من "مسلّماته". وهكذا، كلّ مرّةٍ يتجلّى القانون الأخلاقيّ في شكل الآمر الجازم (أي غير مشروط بقدر ما هو بلا شرط)، تتداخل الحريّة والضرورة إلى أن تندمجا معًا، تلك الضرورة التي تكثّف في ذاتها العبارة المتناقضة جدًا: "قانون الحرّيّة". إلّا أنّه ينبغي لنا إذًا ألّا ننسى أنّ الحقل الذي تجري فيه عمليّة هذا العبور هو القدرة على الرغبة. لذا، يجب أن نفهم من خلال الرغبة هذا العقل الذي يَعتبر أنّ القانون الأخلاقيّ هو "حقيقة"، وأنّ عقلانيّة الـ"يجب عليّ" (ich soll) المفروضة بهذا القانون، والتي تعني في الوقت عينه "أريد" (ich will) و"أقدر" (ich kann)، وبالتالي، في الختام، علاقات الإرادة (der Wille) التي تريد والحَكم (Willkür) الذي يستطيع.
19لقد سبق أن أشرنا إلى هذا من دون أن نسمّيه باسمه الكانطيّ، عندما نوّهنا سابقًا بالعلاقة التجريبيّة بين حَكَم وَقَفَ نفسه للعمل و"مبدأ" الرضى، وحتى المُتعة، المرتبط بإنجازه وبطبيعةٍ حسّيّةٍ لا مفرّ منها12. يحدث إذًا بوجهٍ عامّ، في ملكة الرغبة، حالةٌ انفعاليّةٌ لا يستطيع الحَكم الإنسانيّ أن يفلت منها. وفي إطار هذه "الحالة الانفعاليّة" يتعارض الحَكم الإنسانيّ جذريًّا مع الحَكم الحيوانيّ، كما تُذكّرنا مقدّمة "ميتافيزيقا الأخلاق". إنّ الحَكَم الحيوان "arbitrium brutum" الذي وصفه كانط بشكلٍ لافتٍ بالعبد "servum"، يخضع لمنبّهات الحساسيّة وفقًا لِتَميُّز مزدوج: فهو مُحدَّد بهذه المنبّهات بالحَصْر وبالضرورة. أمّا في ما يتعلّق بالحَكَم المستقل، الخاصّ بالإنسان "arbitrium liberum" (إذ بفضل هذه لا يكون الإنسان حيوانًا)، فهو يبقى، بالطبع، حَكَمًا حسّيًّا، بيد أنّ هذه الحساسية يقتصر دورها على التأثير فيه ولكن ليس على تحديد مساره، فثمّة شيءٌ آخر فيه بمقدوره أن يُحفّزه: "إرادةٌ محض"، تُعبّر عن واقعه كَـ"كائنٍ عقلانيّ". وقد حدّد ذلك كتاب "نقد العقل المحض":
الحَكم الإنسانيّ هو بالطبع حَكَمٌ حسّيّ (arbitrium sensitivum)، ولكنّه ليس حيوانًا (وحشًا فظًّا)، بل حرًّا (librum)، لأنّ الحساسيّة لا تفعل من عمل هذا ضرورةً، ولكن، هناك قدرة تتساكن معها في الإنسان، تلك التي تُحدّد ذاتها بشكلٍ مستقلٍّ عن الإكراه الناجم عن الدوافع الحسّيّة13.
20إنّ "طبيعة" الحَكَم الإنسانيّ هي إذًا على هذا النحو بحيث أنّها تُفلت من الطبيعة: تحضر (تَتفعّل) في هذا الحَكَم قدرة تحديد الذات التي تفصله، في طبيعته الحسّيّة، عن قوّة الحساسية، وتُشكّل اعتراضًا نهائيًّا على اختزال الحسّ، الذي لا جدل فيه بحدّ ذاته في الحيوان، ممّا يُعطي الثقة، بالطبع، بالتجربة الحاسمة للقانون الأخلاقيّ في هذا الصدد، والتي هي، كما ذكرنا بذلك، "حرّيّة" عمليّة.
21كلّ شيء يسير وكأنّه يجب تعريف الحَكَم الإنسانيّ بأنّه بديل بين قوّتين من الاختيار. فمن جهة، هناك القوّة التجريبيّة للغاية لمَلكة الرغبة، المرتبطة جوهريًّا بِـ"الحساسية" وبِـ"شعور" المُتعة والألم؛ وبوجيز العبارة، "الحَكَم الحرّ"، كما يُفهم بشكلٍ عامّ، أي وعي الاختيار حسبما يهوى المرء (nach belieben)، إلى حدّ أنّه يُصبح اعتباطيًّا ومستبدًّا بدلًا من أن يكون حرًّا. ومن جهةٍ أخرى، قد تكون لدينا قوّة الاختيار، اختيار أخلاقيّ هذه المرّة، له مواصفات مَلكة الرغبة نفسها، ولكن مرتبطة أساسيًّا، في هذه الحالة، بالجوهر "فوق الحسّيّ" للعقل المحض. وفي ضوء ذلك تختار إمّا الخضوع للانفعال، فنقبل بالتالي بأن تُصبح حاسمة، ولكن نرجع هكذا إلى "الحُكم الحرّ"، أو تختار إيعازات الإرادة المحض، أي العقل المحض المشرّع، وعندها ستكون قوّة الاختيار لـ"الحَكَم المستقل"، الموصف باستقلاليّته إزاء كلّ تأثيرٍ حسّيّ، وفي قلب الحساسية. إنّ تحديد الذات يستبعد أن يتمكّن الانفعال من تحديد الاختيار، من دون إلغاء الحساسية مع ذلك، لأنّه، إزاء القانون الأخلاقيّ، هناك الحسّ بالاحترام نحوه. هكذا، قد لا يكون هناك فَرْقٌ بين هذا الحَكَم المستقل والحَكَم الحرّ، المعرَّف به فلسفيًّا في التراث الكلاسيكيّ.
22إذا أضفنا، في نهاية المطاف، [من جهة] أنّ نظام الحَكَم (الـ"Willkür" من دون الـ" freie Willkür") هو نظام "التبعيّة"14، عندما يُرحّب بالقاعدة، التي يُطبّقها الحَكَم على مسلك العمل بإغراءات الحساسيّة، و[من جهةٍ أخرى] أنّ تحديد العقل المحض الذاتي كمشرّع، ليس سوى الاستقلاليّة التي تشكّل، منذ "أسس ميتافيزيقا الأخلاق"، الخاصيّة المرموقة لإرادة الكائن العقلانيّ، سيكون هناك خاتمةٌ بسيطةٌ ستفرض نفسها، انطلاقًا من ذلك، تخصّ في الوقت عينه التعريف بالحَكَم المستقل، والجواب عن السؤال: ما الذي يُحرّر الحَكَم نفسه؟ إنّ الحَكَم المستقل هو الحَكَم الذي ننتزعه من التبعيّة بواسطة استقلاليّة الإرادة.
ج. حرّيّة الحَكم
23لكنّ هذه البساطة مضلّلة. فمن الضروريّ إعطاء كلّ الأهمية هنا إلى التوضيحات، التي يُمكن أن نقول عنها إنّها نهائيّة، والتي تَفرّغ لها كانط في نهاية مقدّمة "ميتافيزيقا الأخلاق":
"تصدر القوانين عن الإرادة، وتَصدر القواعد عن الحَكَم (Willkür). هذا الحَكَم في الإنسان هو حَكَم مستقل (freie Willkür)؛ والإرادة التي لا تستند إلى شيء آخر ما خلا القانون، لا يُمكن تسميتها لا بالحرّة ولا بغير الحرّة، لأنّها لا تعود إلى الأفعال بل إلى التشريع مباشرةً من أجل قاعدة الأعمال (أي العقل العمليّ نفسه)، وبالتالي هي ضروريّة للغاية وغير قادرةٍ على أن تُرغم ذاتها. وحده الحَكَم يُمكن أن يُسمى بالحرّ [بمعنى المستقل]"15.
24إذا ذكّرنا، استنادًا إلى هذه الإيضاحات الأساسيّة، أنّه في حال وجود "هدفٍ ضروريّ عمليًّا"، "لا تختار الإرادة العقلانيّة المحض، بل تخضع لأمرٍ قاطعٍ من العقل"16، نتساءل كيف تستطيع الإرادة، التي لا تختار بحرّيّة من تلقاء نفسها، أن تُحرّر الحَكَم. إنّ استقلاليّتها ليست سوى نَسَق العقل الذي يتشكّل من القدرة على التشريع، ولا يُمكن اعتبارها قدرة عمل على الحَكَم. لا يُمكننا أن نقول إنّ الحَكَم مستقلٌّ إذا كان عليه أن يطيع قانون الإرادة، حتّى لو افترضنا "حركة انتقاليّة" تكون ضمنيّة لملكة الرغبة، تسمح على الفور بنقل الحريّة من جهةٍ إلى أخرى، من دون أن نجعل من الحرّيّة خاصيّة الإرادة وإنكار أنّ الحَكَم وحده يستطيع أن يكون حرًّا، ممّا يتناقض بشكلٍ مضاعفٍ مع الاستنتاجات الكانطيّة. ويبقى السؤال إذًا الذي تمّت صياغته سابقًا: ما الذي يُحرّر الحَكَم؟ وهو سؤال يُمكننا تمديده إلى أبعد من ذلك: ما الذي يجعل من هذه الحرّيّة قوّة تَصَرّف "إيجابيّة"، إذا كان الحَكَم، الذي تَحرّر من دوافع الحساسية، مستقلًّا فحسب، أي على حدّ قول كانط نفسه، حرًّا بطريقة سلبيّة فحسب؟ ولكن، وفي الطريقة عينها، إذا استندنا إلى الأسطر التي تلي المقطع المُستشهد به: "لا يُمكن تحديد حرّيّة الحَكَم من خلال القدرة على اختيار التصرّف مع القانون أو ضدّه ("libertas indifferentiae"، الاختيار بلا مفاضلة) كما حاول البعض [...]، ولا يُمكن للمرء أن يضع الحرّيّة في القدرة التي سيتعيّن على الشخص العاقل أيضًا أن يتّخذ اختيارًا يتعارض مع عقله (المشرّع)". ويصرّ السؤال الآخر الذي طُرح بقوّة أكبر: لِمَ الحديث بَعْد عن الحَكَم إذا لم يكن هناك حرّيّة "الاختيار"؟
Bibliographie
Castillo Monique, Kant, Vrin, 1997.
Delbos Victor, La philosophie pratique de Kant, PUF, 3e éd., 1969.
Dhlf : Rey Alain (dir.), Dictionnaire historique de la langue française, 3 vol., Le Robert, 1992.
Duden Konrad, Etymologie. Herkunftswörterbuch der deutschen Sprache, éd. G. Drosdowski, P. Grebe et al., Mannheim, Dudenverlag, 1963.
Eisler Rudolf, Kant-Lexikon [1926-1930], repr. Hildesheim, Olms, 1961 ; trad. fr. augm. A.-D. Balmès et P. Osmo, Gallimard, 1994.
Grimm Jacob et Wilhelm, Deutsches Wörterbuch, Leipzig, Hirzel, 1854, repr. Munich, Deutscher Taschenbuch, 1984.
Höffe Otfried, Introduction à la philosophie pratique de Kant, Vrin, 1993.
Kant Emmanuel, Werke, éd. de l’Académie royale des sciences de Prusse (= AK), 1902-1910, Berlin, de Gruyter, 1968.
Kant Emmanuel, Œuvres, 3 vol., éd. A. Philonenko, H. Wismann, L. Ferry, A. Renaut, J. et O. Masson, Gallimard, « La Pléiade », 1980-1986.
Littré Émile, Dictionnaire de la langue française, 4 vol., Hachette, 1873.
Roviello Anne-Marie, L’institution kantienne de la liberté, Ousia, 1984.
Notes de bas de page
1 J. Barni, Introduction explicative, in Kant, Eléments métaphysiques de la doctrine du droit, A. Durand, 1853, p. IX.
2 هذا هو الحلّ الذي اعتمده جويل وَأوليفيه ماسّون في طبعة أعمال كانط في سلسلة "البلياد" (Pléiade). راجع: Note 2, p. 457 de la Métaphysique des mœurs, in t. 3, p. 1418.
3 اعتمد الكاتب تأخير النعت "libre" (حرّ) عن الاسم "arbitre" (حَكَم) للتمييز بين "libre arbitre" ("Willkür"، الحَكَم الحرّ) و"arbitre libre" ("freie Willkür"، الحَكَم المستقل)، في حين اعتمدنا استبدال النعت "حرّ" بـ"مستقل" للتمييز بين "Willkür" و"freie Willkür". (م)
4 Critique de la raison pure, B 266.
5 Critique de la raison pure, B 833.
6 Kant, AK, vol. 5, p. 94-95, 97.
7 Kant, Critique de la raison pure, B 1-3.
8 Critique de la raison pratique, in AK, vol. 5, p. 30 ; ou Anthropologie, in AK, vol. 7, p. 148.
9 La Religion dans les limites de la simple raison, I et II.
10 La Religion dans les limites…, in AK, vol. 6, p. 26 ; Métaphysique des mœurs, in AK, vol. 6, p. 223 et 227.
11 Critique de la raison pratique, in AK, vol. 5, p. 4
12 يذكر المؤلف هنا التمييز الكانطيّ بين الفاعل التجاوزيّ الذي هو الحَكَم الحرّ على المستوى العمليّ والفاعل التجريبيّ بخبرته الخاصة وانفعالاته. (م)
13 Critique de la raison pure, B 562.
14 Critique de la raison pratique, in AK, vol. 5, p. 43.
15 Métaphysique des mœurs, Introduction, in AK, vol. 6, p. 226 sq.
16 Critique de la raison pratique, in AK, vol. 5, p. 143.

Le texte seul est utilisable sous licence Creative Commons - Attribution - Pas d'Utilisation Commerciale - Pas de Modification 4.0 International - CC BY-NC-ND 4.0. Les autres éléments (illustrations, fichiers annexes importés) sont « Tous droits réservés », sauf mention contraire.
Armées et combats en Syrie de 491/1098 à 569/1174
Analyse comparée des chroniques médiévales latines et arabes
Abbès Zouache
2008
Fondations pieuses en mouvement
De la transformation du statut de propriété des biens waqfs à Jérusalem (1858-1917)
Musa Sroor
2010
La grande peste en Espagne musulmane au XIVe siècle
Le récit d’un contemporain de la pandémie du XIVe siècle
Aḥmad bin ‘Alī bin Muḥammad Ibn Ḫātima[Abū Ǧa‘far Ibn Ḫātima al-Anṣārī] Suzanne Gigandet (éd.)
2010
Les stratégies narratives dans la recension damascène de Sīrat al-Malik al-Ẓāhir Baybarṣ
Francis Guinle
2011
La gent d’État dans la société ottomane damascène
Les ‘askar à la fin du xviie siècle
Colette Establet et Jean-Paul Pascual
2011
Abd el-Kader, un spirituel dans la modernité
Ahmed Bouyerdene, Éric Geoffroy et Setty G. Simon-Khedis (dir.)
2012
Le soufisme en Égypte et en Syrie
Sous les derniers mamelouks et les premiers ottomans. Orientations spirituelles et enjeux culturels
Éric Geoffroy
1996
Les maîtres soufis et leurs disciples des IIIe-Ve siècles de l'hégire (IXe-XIe)
Enseignement, formation et transmission
Geneviève Gobillot et Jean-Jacques Thibon (dir.)
2012
France, Syrie et Liban 1918-1946
Les ambiguïtés et les dynamiques de la relation mandataire
Nadine Méouchy (dir.)
2002
Études sur les villes du Proche-Orient XVIe-XIXe siècles
Hommage à André Raymond
Brigitte Marino (dir.)
2001